المنهج العقلي في التفسير
يحظى منهج التفسير العقلي (الذي عُرِّف بتعاريف كثيرة) بمنزلة خاصّة بين مناهج التفسير، وقد اتّخذت المذاهب الكلامية (الشيعة، المعتزلة، الأشاعرة...) بأزاء هذا المنهج مواقف مختلفة، وقد يطلق عليه في بعض الأحيان منهج التفسير الاجتهادي،
يحظى منهج التفسير العقلي (الذي عُرِّف بتعاريف كثيرة) بمنزلة خاصّة بين مناهج التفسير، وقد اتّخذت المذاهب الكلامية (الشيعة، المعتزلة، الأشاعرة...) بأزاء هذا المنهج مواقف مختلفة، وقد يطلق عليه في بعض الأحيان منهج التفسير الاجتهادي، وقد يُذكر كأحد أقسام منهج التفسير بالرأي، وقد يُنظر إليه بنظرة مساوية للاتجاه الفلسفي في التفسير.
المراد من التفسير العقلي الاجتهادي
لكي يتوضّح المقصود من منهج التفسير العقلي الاجتهادي لا بدّ من بيان معنى هاتين المفردتين وهما:ألف- العقل:
في اللغة: هو بمعنى الإمساك، والحفظ، ومنع الشيء.في الاصطلاح: يطلق على معنيين:
1- القوّة المستعدّة لحصول العلم، وهي نفس ذلك الشيء الّذي بفقدانه يرتفع التكليف عن الإنسان، وقد ورد مدح العقل في أحاديث كثيرة.
2- العلم الّذي يحصل عليه الإنسان بواسطة هذه القوّة، وقد ورد هذا المعنى في القرآن عندما ذمّ الكافرين بسبب عدم التعقّل، وقد استُدلَّ على هذا المعنى بأحاديث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.
والنتيجة: يستفاد ممّا تقدّم أنّ العقل قد يطلق على القوّة المفكّرة تارة، وأخرى على مدركات هذه القوّة، أي العلوم المكتسبة.
ولهذا فإنّ العقل ينقسم إلى العقل الفطري والعقل الاكتسابي، وقد يُقسّم إلى عقل نظري وعقل عملي.
هناك تعاريف كثيرة للعقل النظري والعقل العملي، فقد يكون الاختلاف بينهما من حيث الإدراك، فإن كان الإدراك متعلّقاً بالعمل، وبما يجب أن يُعمل ويطبّق على الحياة كقولنا: العدل حسن والظلم قبيح فيكون العقل عملياً، وأمّا إذا لم يكن الإدارك متعلّقاً بالعمل، أو بإدراك ما يجب أن يُعمل، كحاجة الممكن إلى العلّة، يكون العقل نظرياً.
ب- الاجتهاد
المقصود بالاجتهاد هنا هو بذل الجهد الفكري واستخدام قوّة العقل في فهم آيات القرآن ومقاصده، وعلى هذا فاستعمال الاجتهاد هنا أعمّ من الاجتهاد الاصطلاحي في علم الفقه؛ لأنّه يشمل آيات الأحكام وغيرها، أي أنّ التفسير الاجتهادي يكون في قِبال التفسير النقلي؛ ففي التفسير النقلي يتمّ التأكيد على النقل أكثر من غيره، أمّا في التفسير الاجتهادي فيتمّ التأكيد على العقل والنظر.تاريخ العمل بالمنهج العقلي للتفسير
يمتلك منهج التفسير الاجتهادي العقلي ماضياً قديماً، وقد حصل في وقتٍ مبكّر، في عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الّذي علّم أصحابه كيفيّة الاجتهاد العقلي في فهم النصوص الشرعية (من الكتاب والسنّة) ويمكن أن نجد نماذج من التفسير العقلي في الأحاديث التفسيريّة لأهل البيت عليهم السلام ، وكذا في عهد التابعين، حيث انفتح باب الاجتهاد وإعمال الرأي والنظر في التفسير، وشاع النقد والتمحيص في المنقول من الآثار والأخبار. ولم تزل تتوسّع دائرة ذلك مع مرور الزمن. نعم، كانت آفة ذلك لدى الخروج عن دائرة التوقيف، وولوج باب النظر وإعمال الرأي أن ينخرط التفسير في سلك التفسير بالرأي الممقوت عقلاً، والممنوع شرعاً.ووصل هذا المنهج إلى أوج تطوّره فيما بعد على يد المعتزلة، وظهرت عند الشيعة تفاسير عقلية مثل تفسير التبيان للشيخ الطوسي (385 460هـ)، ومجمع البيان للطبرسي (ت: 548هـ)، وكذلك التفسير الكبير للفخر الرازي عند أهل السنّة، وقد بلغ هذا التطوّر مدىً بعيداً في تفسير الميزان للطباطبائي عند الشيعة وروح المعاني للآلوسي (ت: 1270هـ).
ومن الأمثلة على استخدام هذا المنهج في أحاديث أهل البيت عليهم السلام ما رواه عبد الله بن قيس، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: سمعته يقول: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾(1) ، فقلت: له يدان هكذا وأشرت بيدي إلى يديه ـ؟ فقال: "لا، لو كان هكذا كان مخلوقاً"(2).
ففي هذا الحديث استفاد الإمام عليه السلام من العقل في تفسير الآية ونفي اليد المادّية عن الله سبحانه وتعالى؛ لأنّ وجود مثل هذه اليد يستلزم الجسميّة والمخلوقيّة لله، وهو سبحانه منزّه عن هذه الصفات (فالمقصود من اليد هنا هو القدرة الإلهيّة).وهناك نماذج من التفاسير العقلية وصلتنا عن طريق أحاديث أهل البيت عليهم السلام بخصوص العرش والكرسي. وقد استفاد الإمام عليّ عليه السلام في بعض خطب نهج البلاغة من مقدّمات عقلية لتفسير آيات القرآن الكريم(3).
الاختلاف في معنى التفسير العقلي
تضاربت آراء العلماء حول مفاد منهج التفسير العقلي، وتعدّدت الأقوال بشأن معناه، فكلّ شخص يحكم على هذا المنهج على أساس فهمه، وسوف نستعرض أهمّ الآراء في هذا الموضوع:1ـ الاستفادة من القرائن العقلية كأداة في التفسير: وذلك لفهم معاني الألفاظ والجمل، ومن جملتها القرآن والحديث، فمثلاً عندما يقال: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾(4) ، فالعقل يقول: بأنّه ليس المقصود من اليد هنا هو هذه الجارحة الّتي تحتوي على خمسة أصابع، لأنّ الله تعالى ليس بجسم، وإنّ كلّ جسم فهو محدود وفانٍ، والله ليس محدوداً ولا يفنى، وهو أزلي أبدي، بل المقصود من ذلك هو قدرة الله تعالى، فإطلاق اليد على القدرة إطلاق مجازي.
إذاً ليس المراد من التفسير العقلي الآراء والأذواق الشخصية أو الأفكار الخيالية الّتي لا أساس لها.
2ـ التفسير العقلي هو التفسير الاجتهادي نفسه: فقد ذكر البعض أنّ التفسير الاجتهادي يعتمد العقل والنظر أكثر ممّا يعتمد النقل والأثر؛ ليكون المناط في النقد والتمحيص هو دلالة العقل الرشيد والرأي السديد، وأنّ أحد خصائص تفسير التابعين هو الاجتهاد في التفسير والاعتماد على الفهم العقلي "فأعملوا النظر في كثير من مسائل الدِّين، ومنها مسائل قرآنية كانت تعود إلى معاني الصفات، وأسرار الخليقة، وأحوال الأنبياء والرسل وما شاكل. فكانوا يعرضونها على شريعة العقل ويحاكمونها وفق حكمه الرشيد، وربّما يؤوّلونها إلى ما يتوافق مع الفطرة الإنسانية"(5). وهذا الرأي كما هو واضح يجعل التفسير العقلي والاجتهادي بمعنى واحد.
3ـ التفسير العقلي نوع من أنواع التفسير بالرأي: فقد جعل بعضهم التفسير العقلي في مقابل التفسير النقلي، وأنّه يعتمد على الفهم العميق والمركّز لمعاني الألفاظ القرآنية الّتي تنتظم في سلكها تلك الألفاظ وفَهْمِ دلالتها، ثمّ سمّى هذا البعض التفسير العقلي بالتفسير بالرأي(6).
كما: أشار الدكتور الذهبي إلى نفس هذا الرأي فقال: "والمراد هنا الاجتهاد، وعليه فالتفسير بالرأي عبارة عن تفسير القرآن بالاجتهاد"(7).
ولكن سيتّضح في مبحث التفسير بالرأي أنّ هذا التفسير هو غير التفسير العقلي أو الاجتهادي، وأنّ هناك اختلافات رئيسة بينهما. ففي التفسير بالرأي يُقدم شخص المفسِّر على التفسير؛ على أساس الذوق والنظر الشخصي بدون مراعاة القرائن النقليّة والعقلية، أمّا بالنسبة إلى التفسير العقلي فإنّ المفسِّر يأخذ بنظر الاعتبار القرائن النقليّة والعقلية في التفسير. وكذلك بالنسبة إلى التفسير الاجتهادي فقد اتّضح أنّ الاجتهاد على نوعين:
1-هو الاستنباط دون مراجعة القرائن العقلية والنقلية وهو ما يعتبر نوعاً من التفسير بالرأي.
2-هو الاجتهاد الصحيح والمعتبر وهو الّذي يأخذ بنظر الاعتبار القرائن العقلية والنقليّة، وهذا التفسير لا يعتبر من التفسير بالرأي.
والحاصل أنّه مع تعدّد هذه الآراء من القول بأنّ التفسير الاجتهادي وفقاً للرأي المشهور يُعتبر من أقسام التفسير العقلي، لأنّه يستفاد في هذا النوع من التفسير من قوّة الفكر والعقل في تجميع المسائل والمواضيع.
أدلّة جواز الاعتماد على المنهج العقلي في التفسير
اختلف العلماء حول جواز هذا المنهج في التفسير وعدمه، وقد استدلّ القائلون بالجواز بأدلّة متعدّدة منها:1ـ القرآن الكريم
فقد اهتمّ القرآن الكريم كثيراً بدعوة الناس إلى التعقّل والتفكّر في آياته (8)، بل إنّه ذمّ الّذين لا يتدبّرون القرآن (9). فإذا لم يكن للعقل اعتبار ومنزلة عند الله تعالى، فإنّ هذا الخطاب سيُصبح حينئذٍ عديم الفائدة وبدون معنى، وما نتيجة التدبّر والتفكّر في آيات الله إلّا التفسير العقلي والاجتهادي.2ـ الروايات
يحتلّ العقل مكانة خاصّة في الأحاديث وله موقع متميّز فيها، فقد ورد عن الإمام الكاظم عليه السلام أنّه قال: "يا هشام إنّ لله حُجّتين، حجّة ظاهرة وحجّة باطنة، فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة، وأمّا الباطنة فالعقول" (10).فإذا كان العقل حجّة باطنة، وجب أن يكون الشيء الّذي يُدركه ويحكم به بصورة قطعيّة، حجّة على الإنسان، وواجب الاتّباع، وإلّا فإنّ الحجيّة تصبح لا معنى لها.
3ـ السيرة
نسب بعض العلماء هذا المنهج إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام ، وهناك نماذجمن هذا المنهج في أقوال الأئمة، وإنّ فعل وقول المعصوم يدلّ على جواز ذلك في أقلّ التقادير، إضافة إلى السيرة المستمرّة لكبار المفسّرين.
4ـ بناء العقلاء
إنّ طريقة بناء العقلاء في التفسير الاجتهادي، هي التمسّك بظاهر كلام المتكلّم، واستخراج مقاصده ومعاني كلامه عن طريق القواعد الأدبيّة، والدلالات اللفظية والقرائن الموجودة، والمشرِّع الإسلامي لم يمنع من هذه الطريقة العقلائية ولم يخترع طريقة جديدة في التعامل.وفي مقابل ذلك ذهب بعض آخر إلى عدم جواز الاعتماد على هذا المنهج في التفسير متمسّكاً بجملة أدلّة منها: ما روي عن الإمام السجّاد عليه السلام أنّه قال: "إنّ دين الله لا يُصاب بالعقول"(11) ، وببعض الروايات الّتي تشير إلى عدم جواز تفسير القرآن إلّا بالأثر الصحيح والنص الصريح.
فإذاً منهج التفسير العقلي والاجتهادي طريق لا يوصل إلى نتيجة.
وفي الجواب عن هذا الدليل نقول: إنّ هذا النوع من الأحاديث صدر في وجه المخالفين لأهل البيت عليهم السلام ، والذين لم يلتفتوا إلى القرائن النقليّة وكلام المعصومين عليهم السلام ، والذين يفتقدون شرائط الاجتهاد ويستخدمون التفسير بالرأي.
وهذا الرأي تبنّاه الأشاعرة أيضاً لكونهم يعتقدون بأنّ منشأ كلّ تكليف هو حكم الشارع وليس العقل، ولا يُعتمد على إدراكات العقل كالاعتماد على حكم الشارع.
ولكن فات هؤلاء أنّ عقل الإنسان كاشف عن الحكم الشرعي، أي أنّ عقل الإنسان لا يُصدر حكماً مخالفاً للحكم الشرعي، وقد اتّضح في أصول الفقه أنّه: "كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع".
خلاصة
ـ للتفسير العقلي مكانة خاصّة بين المناهج التفسيريّة وكان موضع مناقشة ونقض بين المذاهب الإسلامية (الشيعة، المعتزلة، الأشاعرة).ـ أرجع بعض العلماء تاريخ هذا المنهج إلى عصر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وجذوره موجودة في روايات أهل البيت عليهم السلام ، وقد عُني بهذا المنهج كثيراً في عصر التابعين.
ـ تضاربت الآراء في بيان معنى التفسير العقلي، وقد عرضنا لهذه الآراء بشيءٍ من الإيجاز.
ـ اختلف العلماء حول جواز هذا المنهج في التفسير، واستدلّ المجوّزون بما يلي: 1-الدليل القرآني، 2- الدليل الروائي، 3- السيرة، 4-بناء العقلاء.
أمّا المانعون فقد استدلّوا بجملة روايات تشير إلى عدم جواز تفسير القرآن الكريم إلّا بالأثر الصحيح والنص الصريح.
ومن جملة المانعين لهذا المنهج الأشاعرة.
المصادر :
1- سورة المائدة، الآية: 64.
2- 3- تفسير نور الثقلين، الشيخ الحويزي، ج 1، ص 650، ح 279.
3- نهج البلاغة، الخطبة: 152ـ 184ـ 228.
4- سورة الفتح، الآية: 10.
5- التفسير والمفسّرون، الشيخ محمّد هادي معرفة، ج 2، ص 249.
6- أصول التفسير وقواعده، خالد عبد الرحمن العكّ، ص 167، دار النفائس، بيروت، ط 3، 1414هـ.
7- التفسير والمفسّرون، محمّد حسين الذهبي، ج 1، ص 255، دار الكتب الحديثة، ط 2، 1976م.
8- راجع السور التالية: الأنبياء، الآية: 10، ويوسف، الآية: 2، والقمر، الآية: 17.
9- راجع سورة محمّد، الآية: 24.
10- الكافي، الشيخ الكليني، ج 1، ص6.
11- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 2، ص 303.
مقالات مرتبط
تازه های مقالات
ارسال نظر
در ارسال نظر شما خطایی رخ داده است
کاربر گرامی، ضمن تشکر از شما نظر شما با موفقیت ثبت گردید. و پس از تائید در فهرست نظرات نمایش داده می شود
نام :
ایمیل :
نظرات کاربران
{{Fullname}} {{Creationdate}}
{{Body}}