انکر البعض قول علي بن أبي طالب عليه السلام: إن مما عهد إلي النبي (صلى الله عليه وآله): إن الاُمة ستغدر بي بعده(1).
ولست أرى وجهاً للانكار بعد أن أكّد الحاكم صحة الحديث وأقره الذهبي على ذلك، كما أن الأحداث تثبت الأحقاد التي كانت تكنها قريش لعلي بن أبي طالب وبني هاشم جميعاً، كما سوف يأتي.
إن موقف الأنصار، ومبادرتهم السريعة لعقد ذلك الاجتماع العاجل في سقيفة بني ساعدة بمجرد سماعهم بوفاة النبي (صلى الله عليه وآله)، ليدل على أنهم كانوا قد استشفوا بعض ما كانت قريش تدبّره في الخفاء من أجل إزاحة بني هاشم عن الخلافة -لأنهم كرهوا أن تجتمع فيهم الخلافة والنبوة كما اعترف عمر بن الخطاب- فبادر الأنصار لأخذ زمام المبادرة بهدف الاستيلاء على السلطة، فتكون لهم السيادة على قريش فيأمنوا جانبهم، حتى عبّر خطيبهم عن هذا الرأي صراحة، وهو الحباب بن المنذر فقال: منّا أمير ومنكم أمير، إنا والله ما ننفس هذا الأمر عليكم أيها الرهط، ولكنا نخاف أن يليه بعدكم من قتلنا أبناءهم وآباءهم واخوانهم، فقال عمر بن الخطاب: إذا كان ذلك، قمت إن استطعت(2).
وعبّر البراء بن عازب عن شعوره بما كان يحدث حوله، قال: لم أزل لبني هاشم محباً، فلما قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) خفتُ أن تتمالأ قريش على إخراج هذا الأمر عنهم، فأخذني ما يأخذ الوالهة العجول، مع ما في نفسي من الحزن لوفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فكنت أتردد الى بني هاشم وهم عند النبي (صلى الله عليه وآله) في الحجرة، وأتفقد وجوه قريش، فاني كذلك إذ فقدت أبا بكر وعمر، وإذا قائل يقول: القوم في سقيفة بني ساعدة، وإذا قائل آخر يقول: قد بويع أبو بكر، فلم ألبث وإذا أنا بأبي بكر قد أقبل ومعه عمر وأبو عبيدة وجماعة من أصحاب السقيفة وهم محتجزون بالاُزر الصنعانية، لا يمرّون بأحد إلاّ خبطوه وقدّموه فمدّوا يده فمسحوها على يد أبي بكر يبايعه، شاء ذلك أو أبى، فأنكرت عقلي وخرجت أشتد حتى انتهيت الى بني هاشم والباب مغلق، فضربت عليهم ضرباً عنيفاً، وقلت: قد بايع الناس لأبي بكر بن قحافة! فقال العباس: تربت أيديكم إلى آخر الدهر...(3)
والحوادث التي سبقت وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) بقليل تثبت أن قريشاً كانت تعد العدّة للاستيلاء على منصب الخلافة رغم قناعة الجميع بأن علياً كان الأولى بها، وقد روى الجوهري عن ابن عباس، قال: تفرّق الناس ليلة الجابية عن عمر، فسار كل واحد مع إلفه، ثم صادفت عمر تلك الليلة في مسيرنا فحادثته، فشكا إليَّ تخلّف عليّ عنه، فقلت: ألم يعتذر إليك؟ قال: بلى، فقلت: هو ما اعتذر به. قال: يابن عباس، إن أول من ريّثكم عن هذا الأمر أبو بكر، إن قومكم كرهوا أن يجمعوا لكم الخلافة والنبوة. قلت: لم ذاك يا أمير المؤمنين؟ ألم نُنلهم خيراً! قال: بلى، ولكنهم لو فعلوا لكنتم عليهم جحفاً جحفاً!(4).
فقريش كانت قد تعودت منذ الجاهلية على حب الفخر والسيادة والشرف على الآخرين، وكان بنو هاشم هم الأعظم سيادة، لا ينازعهم فيها إلاّ بنو اُمية وبنو مخزوم، ولكن بنو اُمية ومخزوم قد تخلّفوا عن الإسلام، وسبقتهم إليه أحياء أضعف وأقل شأناً منهم، كتيم قبيلة أبي بكر، وعدي قبيلة عمر، وكانت فرصة الوثوب مؤاتية مع انشغال بني هاشم بجهاز رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وكان الأمر يحتاج الى مبادرة سريعة ومباغتة تحسم الموقف منذ البداية، فكان ما كان.

الضغائن

لم يكن الفخر وحب الرئاسة هو المحرّك الوحيد للجانب القرشي للمبادرة بأخذ الخلافة من بني هاشم، فقد كانت النفوس منطوية على ضغائن سببتها الحروب التي خاضها النبي (صلى الله عليه وآله) ضد قريش، وسقط فيها جملة من صناديدها، وكانت لبني هاشم - وبخاصة علي- اليد الطولى في ذلك، حيث قتل علي جملة من سادات قريش وأقرانها، ومن العبث الاعتقاد بأن النفوس التي جُبلت على طلب الثأر، قد تغيّرت بسرعة، وأصبحت مستعدة للتنازل عن ذحولها وثاراتها، وقد جاء ذلك كله موثّقاً بروايات أخرجها المحدثون، فقد أخبر النبي (صلى الله عليه وآله) علياً بغدر الاُمة به من بعده كما مرّ سابقاً، وروى علي بن أبي طالب، قال: بينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) آخذ بيدي ونحن نمشي في بعض سكك المدينة، إذ أتينا على حديقة، فقلت: يا رسول الله، ما أحسنها من حديقة! فقال: إن لك في الجنة أحسن منها (إلى أن قال): فلما خلا لي الطريق، اعتنقني ثم أجهش باكياً! قلت: يا رسول الله، ما يبكيك؟ قال: "ضغائن في صدور أقوام لا يبدونها لك إلاّ من بعدي"، قال: قلت: يا رسول الله، في سلامة من ديني؟ قال: "في سلامة من دينك"(5).
ولقد اعترف قوم من الصحابة ببغضهم علياً، فعن سعد بن أبي وقاص قال: كنت جالساً في المسجد، أنا ورجلين معي، فنلنا من علي، فأقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) غضبان يُعرف في وجهه الغضب، فتعوذت بالله من غضبه، فقال: "مالكم ومالي؟ من آذى علياً فقد آذاني"(6).
وعن بريدة قال: بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) علياً أميراً على اليمن، وبعث خالد ابن الوليد على الجبل، فقال: "إن اجتمعتما فعليٌّ على الناس"، فالتقوا وأصابوا من الغنائم مالم يصيبوا مثله، وأخذ علي جارية من الخمس(7)
فدعا خالد بن الوليد بريدة، فقال: اغتنمها! فأخبِر النبي (صلى الله عليه وآله) بما صنع، فقدمت المدينة ودخلت المسجد ورسول الله (صلى الله عليه وآله) في منزله، وناس من أصحابه على بابه، فقالوا: ما الخبر يا بريدة؟ فقلت: خيراً، فتح الله على المسلمين، فقالوا: ما أقدمك؟ قال: جارية أخذها علي من الخمس، فجئت لاُخبر النبي (صلى الله عليه وآله). فقالوا: فأخبر النبي (صلى الله عليه وآله) فانه يسقط من عيني رسول الله (صلى الله عليه وآله)! ورسول الله (صلى الله عليه وآله) يسمع الكلام، فخرج مغضباً وقال: "ما بال أقوام ينتقصون علياً! من ينتقص علياً فقد انتقصني، ومن فارق علياً فقد فارقني، إن علياً مني وأنا منه، خُلق من طينتي، وخُلقتُ من طينة إبراهيم، وأنا افضل من إبراهيم، ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم"، وقال: "يا بريدة، أما علمت أن لعلي أكثر من الجارية التي أخذ، وأنه وليكم بعدي"؟ فقلت: يا رسول الله، ما بالصحبة إلاّ بسطت يدك حتى أُبايعك على الإسلام جديداً! قال: فما فارقته حتى بايعته على الإسلام(8).
وفي رواية إبن عساكر، قال بريدة: فرأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد غضب غضباً لم أره غضب مثله قط إلاّ يوم قريضة والنضير، فنظر إلي فقال: "يا بريدة، إن علياً وليكم بعدي، فأحب علياً فانه يفعل ما يؤمر"!
وقال عبد الله بن عطاء: حدثت أبا حرب بن سويد بن غفلة فقال: كتمك عبدالله بعض الحديث، إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال له: "أنافقتَ بعدي يا بريدة"؟!!(9)
وحدث مثل ذلك لعمرو بن شأس الأسلمي -وكان من أصحاب الحديبية- قال: خرجت مع علي (عليه السلام) الى اليمن، فجفاني في سفري ذلك حتى وجدتُ في نفسي عليه، فلما قدمت المدينة أظهرت شكايته في المسجد، حتى سمع بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فدخلت المسجد ذات غداة ورسول الله (صلى الله عليه وآله) جالس في ناس من أصحابه، فلما رآني أبدا لي عينيه - يقول حدّد النظر إلي- حتى إذا جلست قال: "يا عمرو، والله لقد آذيتني". قلت: أعوذ بالله من أذاك يا رسول الله! قال: "بلى، من آذى علياً فقد آذاني"(10).
ولم تقتصر كراهة قريش على علي بن أبي طالب، بل تعدته الى بني هاشم كلهم، فقد روى إبن عدي، عن أبي سفيان، أنه قال: مثل محمد في بني هاشم مثل ريحانة وسط نتن! فانطلق بعض الناس الى النبي (صلى الله عليه وآله) فأخبروا النبي فجاء (صلى الله عليه وآله) يُعرف في وجهه الغضب، حتى قام فقال: "ما بال أقوال تبلغني عن أقوام"(11).
وعن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، قال: أتى ناس من الأنصار النبي (صلى الله عليه وآله) فقالوا: إنا نسمع من قومك حتى يقول القائل منهم: إنما مثل محمد، نخلة نبتت في الكبا - قال حسين، الكبا: الكناسة-(12).
وعنه أيضاً قال: إن العباس بن عبد المطلب دخل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) مغضباً وأنا عنده، فقال: "ما أغضبك"؟ قال: يا رسول الله، مالنا ولقريش، إذا تلاقوا بينهم تلاقوا بوجوه مبشرة، وإذا لقونا لقونا بغير ذلك! قال: فغضب رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى احمر وجهه، ثم قال: "والذي نفسي بيده، لا يدخل قلب رجل الايمان حتى يحبكم لله ولرسوله"(13).
فهذه مجموعة من الروايات القوية التي تؤكد ما كانت تكنُّه قريش من بغضاء لبني هاشم عامة ولعلي بن أبي طالب خاصة، فكيف نتوقع تسليم الخلافة إليه بعد كل هذا؟!
إن الفترة التي سبقت وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) بقليل تعطي للباحث فيها بدقة فكرة واضحة على أن قريشاً كانت قد بدأت تعدّ العدّة لتنفيذ أهدافها في الخلافة، وأهم حادثتين وقعتا قبيل وفاة النبي (صلى الله عليه وآله)، هما بعثة اُسامة بن زيد، وقضية الكتاب الذي أراد النبي كتابته، والذي سبق وأن أشرنا إليه في كلام ابن كثير عنه، وسوف نناقش هذين الأمرين.
الصفحة 726
المصادر :
1- المستدرك 3: 140 وصححه، ووافقه الذهبي.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2: 53.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2: 51 و 219 عن أبي سعيد الخدري.
4- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2: 57 - 58.
5- مجمع الزوائد 9: 118 وقال: رواه أبو يعلى والبزار، وفيه الفضل بن عميرة، وثقه إبن حبان وضعفه غيره. وبقية رجاله ثقات.
6- المصدر السابق 9: 126 وقال: رواه أبو يعلى والبزار باختصار، ورجال أبي يعلى رجال الصحيح غير محمود بن خداش وقنان وهما ثقتان.
7- هذا يثبت عدم صحة الادعاء بغضب فاطمة على علي غيرة من زواجه بأخرى!
8- المعجم الأوسط للطبراني 6: 232، وهذا يثبت أن بغض علي مخرج من الاسلام كما فهمه بريدة.
9- تاريخ دمشق 42: 191.
10- مجمع الزوائد 9: 129 وقال: رواه أحمد والطبراني باختصار، والبزار أخصر منه، ورجال أحمد ثقات.
11- الكامل في الضعفاء 3: 28، مجمع الزوائد 8: 215 وفيه: (فقال رجل من القوم) بدلا من ذكر أبي سفيان، وقال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه حماد بن واقد وهو ضعيف يعتبر به، وبقية رجاله وثقوا.
12- مجمع الزوائد 8: 215 وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.
13- سنن الترمذي 5: 652 وقال: هذا حديث حسن صحيح، المستدرك 3: 333، مسند أحمد 4: 165، مصابيح السنة 4: 191.