حياة الإمام الحسين عليه السلام

في حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم والرسالة الإسلاميّة مساحة واسعة لبيت عليّ وفاطمة وأبنائهما عليهم‌السلام ، ومعاني ودلالات عميقة ؛ حيث إنّه البيت الذي سيحتضن الرسالة ، ويتحمّل عبء الخلافة ، ومسؤولية صيانة الدين والاُمّة.
سه‌شنبه، 28 دی 1395
تخمین زمان مطالعه:
پدیدآورنده: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
حياة الإمام الحسين عليه السلام
 حياة الإمام الحسين عليه السلام

 





 

في حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم والرسالة الإسلاميّة مساحة واسعة لبيت عليّ وفاطمة وأبنائهما عليهم‌السلام ، ومعاني ودلالات عميقة ؛ حيث إنّه البيت الذي سيحتضن الرسالة ، ويتحمّل عبء الخلافة ، ومسؤولية صيانة الدين والاُمّة.
وكان لا بدّ لهذا البيت أن ينال القسط الأوفى ، والحظّ الأوفر من فيض حبّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم ورعايته واُبوّته ، فلم يدّخر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم وسعاً أن يروّي شجرته المباركة في بيت عليّ عليه السلام ، ويتعهّدها صباح مساء مُبيّناً أنّ مصير الاُمّة مرهون بسلامة هذا البيت وطاعة أهله ، كما يتجلّى ذلك في قوله صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم : «إنّ علياً راية الهدى بعدي ، وإمام أوليائي ، ونور مَنْ أطاعني» (1).
وحين أشرقت الدنيا بولادة الحسين عليه السلام ؛ أخذ مكانته السّامية في قلب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم وموضعه الرفيع في حياة الرسالة.
وبعين الخبير البصير ، والمعصوم المسدّد من السّماء وجد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم في الوليد الجديد وريثاً للرسالة بعد حين ، ثائراً في الاُمّة بعد زيغ وسكون ، مُصلحاً في الدين بعد انحراف واندثار ، مُحيياً للسنّة بعد تضييع وإنكار ، فراح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم يهيّئه ويعدّه لحمل الرسالة الكبرى مستعيناً في ذلك بعواطفه وساعات يومه ، وبهديه وعلّمه ؛ إذ عمّا قليل سيضطلع بمهام الإمامة في الرسالة الخاتمة بأمر الله تعالى.
فها هو صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم يقول : «الحسن والحسين ابناي ، مَنْ أحبّهما أحبّني ، ومَنْ أحبّني أحبّه الله ، ومَنْ أحبّه الله أدخله الجّنة ، ومَنْ أبغضهما أبغضني ، ومَنْ أبغضني أبغضه الله ، ومَنْ أبغضه الله أدخله النّار» (2).
وهل الحبّ إلاّ مقدّمة الطاعة وقبول الولاية! بل هما بعينهما في المآل.
لقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم يتألّم لبكائه ، ويتفقّده في يقظته ونومه ، يوصي اُمّه الطاهرة فاطمة (صلوات الله عليها) أن تغمر ولده المبارك بكلّ مشاعر الحنان والرفق (3).
حتّى إذا درج الحسين عليه السلام صبيّاً يتحرّك شرع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم يُلفت نظر النّاس إليه ، ويهيّئ الأجواء لأن تقبل الاُمّة وصاية ابن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم عليها ، فكم تأنّى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم في سجوده والحسين يعلو ظهره صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم ؛ ليظهر للاُمّة حبّه له ، وكذا مكانته ، وكم سارع النبيّ يقطع خطبته ليلقف ابنه القادم نحوه متعثّراً فيرفعه معه على منبره (4)؟ كلّ ذلك ليدلّ على منزلته ودوره الخطير في مستقبل الاُمّة.
وحين قدم وفد نصارى نجران يحاجج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم في دعوته إلى الإسلام وعقيدة التوحيد الخالص ، وامتنع عن قبولها رغم وضوح الحق أمر الله تعالى بالمباهلة ؛ فخرج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم إليهم ومعه خير أهل الأرض تقوىً وصلاحاً ، وأعزّهم على الله مكانةً ومنزلةً ؛ عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام ، ليباهل بهم أهل الكفر والشرك وانحراف المعتقد ، ومُدَلّلاً بذلك ـ في نفس الوقت ـ على أنّهم أهل بيت النبوّة ، وبهم تقوم الرسالة الإسلاميّة ، فعطاؤهم من أجل العقيدة لا ينضب (5).
وما كان من النصارى إذ رأوا وجوهاً مشرقة ، وطافحة بنور التوحيد والعصمة إلاّ أن تراجعوا عن المباهلة ، وقبلوا بأن يعطوا الجزية عنيد وهم صاغرون.
لقد كانت هذه الفترة القصيرة التي عاشها الحسين عليه السلام مع جدّه صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم من أهمّ الفترات وأروعها في تأريخ الإسلام كلّه ، فقد وطّد الرّسول صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم فيها أركان دولته المباركة ، وأقامها على أساس العلم والإيمان ، وهزم جيوش الشرك ، وهدم قواعد الإلحاد ، وأخذت الانتصارات الرائعة تترى على الرّسول صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم وأصحابه الأوفياء ؛ حيث أخذ النّاس يدخلون في دين الله أفواجاً.
وفي غمرة هذه الانتصارات فوجئت الاُمّة بالمصاب الجلل حين توفّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم ، فخيّم الأسى العميق على المسلمين وبخاصة على أهل بيته عليهم‌السلام الذين أضنتهم المأساة ، ولسعتهم حرارة المصيبة بغياب شخص النبيّ صلى‌الله‌عليه‌ و آله و سلم.

ميراث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم لسبطيه عليهما السلام :

ولمّا علمت سيّدة نساء العالمين أنّ لقاء أبيها بربّه (عزّ وجلّ) قريب أتت بابنيها الحسن والحسين عليهما السلام فقالت : «يا رسول الله ، هذان ابناك فورّثهما شيئاً»، فقال صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم : «أمّا الحسن فإنّ له هيبتي وسؤددي ، وأمّا الحسين فإنّ له شجاعتي وجودي» (6).

وصيّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم بالسّبطين عليهما السلام :

ووصّى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم الإمام عليّاً برعاية سبطيه ، وكان ذلك قبل موته بثلاثة أيام ، فقد قال له : «سلام الله عليك أبا الريحانتين ، اُوصيك بريحانتيَّ من الدنيا ، فعن قليل ينهدّ ركناك ، والله خليفتي عليك».
فلمّا قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم قال عليّ عليه السلام : «هذا أحد ركنيَّ الذي قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌ و آله و سلم». فلمّا ماتت فاطمة عليها‌السلام قال عليّ : «هذا الركن الثاني الذي قال لي رسول الله» (7).

لوعة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم على الحسين عليه السلام :

حضر الإمام الحسين عليه السلام عند جدّه الرّسول صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم حينما كان يعاني آلام المرض ويقترب من لحظات الاحتضار ، فلمّا رآه ضمّه إلى صدره وجعل يقول : «ما لي وليزيد! لا بارك الله فيه». ثمّ غشي عليه طويلاً ، فلمّا أفاق أخذ يوسع الحسين تقبيلاً وعيناه تفيضان بالدموع ، وهو يقول : «أما إنّ لي ولقاتلك موقفاً بين يدي الله (عزّ وجلّ)» (8).
وفي اللحظات الأخيرة من عمره الشريف صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم ألقى السّبطان عليهما السلام بأنفسهما عليه وهما يذرفان الدموع والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم يوسعهما تقبيلاً ، فأراد أبوهما أمير المؤمنين عليه السلام أن ينحّيهما عنه فأبى صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم وقال له : «دعهما يتزوّدا منّي وأتزوّد منهما ، فستصيبهما بعدي إثرة».
ثمّ التفت صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم إلى عوّاده فقال لهم : «قد خلّفت فيكم كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فالمضيّع لكتاب الله كالمضيّع لسنّتي ، والمضيّع لسنّتي كالمضيّع لعترتي ، إنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض» (9).

الحسين عليه السلام في عهد أبي بكر :

لقد كان أهل البيت عليهم‌السلام بما فيهم الحسن والحسين عليهما السلام مفجوعين بوفاة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم ، وألم المأساة يهيمن على قلوبهم وهم مشغولون بجهاز أعظم نبيّ عرفه التاريخ الإنساني ، إذ توجّهت إليهم صدمةٌ اُخرى ضاعفت آلامهم ، وبدّدت آمالهم التي غرسها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم في نفوسهم ونفوس الاُمّة.
إنها صدمة مصادرة الخلافة وتنحية الإمام علي عليه السلام عن مسرح القيادة ، ومصادرة المنصب الذي نصّبه فيه الرّسول صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم بأمر الله تعالى.
وكانت هذه الصدمة العنيفة بداية لمُسلسل القلق والاضطهاد الذي فرضه الخطّ الحاكم بعد الرّسول صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم على أهل بيت الرّسول صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم ؛ لتحقيق العزل التام ، والإبعاد الكامل لهم عن موقع القيادة بعد الرّسول صلى‌الله‌عليه‌ و آله و سلم.

لوعة شهادة الزهراء عليها‌السلام :

كان لوفاة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم وقع مؤلم في روح الإمام الحسين الطاهرة ، وهو لم يكن بعد قد أنهى ربيعه الثامن.
وما هي إلاّ مدّة قصيرة وإذا بالحسين عليه السلام يُفجع باستشهاد اُمّه فاطمة بنت رسول الله بتلك الصورة المأساوية ، بعد أن ظلّت تعاني من الظلم والقهر ، وألم اغتصاب حقّها طوال الأيام التي عاشتها بعد أبيها صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم ، فكانت تنعكس معاناتها في روحه اللطيفة ؛ إذ كان كلّما نظر إلى اُمّه بعد وفاة أبيها شاهدها باكيةً ، محزونة القلب ، منكسرة الخاطر.
وقد روي : أنّها (سلام الله عليها) ما زالت بعد أبيها معصّبة الرأس ، ناحلة الجسم ، منهدّة الركن ، باكية العين ، محترقة القلب ، يغشى عليها ساعة بعد ساعة ، وتقول لولديها : «أين أبوكما الذي كان يكرمكما ويحملكما مرّةً بعد مرّة؟ أين أبوكما الذي كان أشدّ النّاس شفقةً عليكما ، فلا يدعكما تمشيان على الأرض؟ ولا أراه يفتح هذا الباب أبداً ، ولا يحملكما على عاتقه كما لم يزل يفعل بكما» (10).
وروي أن الزهراء عليها‌السلام بعد وفاة أبيها صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم كانت تصطحب الحسنين معها إلى البقيع ، حيث تظلّ تبكي إلى المساء ، فيأتي أمير المؤمنين عليه السلام فيعود بهم إلى البيت.
ونقل الرواة عن أسماء بنت عميس قصّة استشهادها مفصّلاً ، وقد جاء فيها أنّ الحسن والحسين عليهما السلام دخلا البيت بُعَيد وفاة اُمّهما ، فقالا : «يا أسماء ، ما يُنيم اُمّنا في هذه الساعة؟!». قالت : يا ابني رسول الله ، ليست اُمّكما نائمة ، بل فارقت روحها الدنيا. فوقع عليها الحسن يقبّلها مرةً ويقول : «يا اُمّاه ، كلّميني قبل أن تفارق روحي بدني». قالت : وأقبل الحسين يقبّل رجلها ويقول : «يا اُمّاه ، أنا ابنك الحسين ، كلّميني قبل أن يتصدّع قلبي فأموت». قالت لهما أسماء : يا ابني رسول الله ، انطلقا إلى أبيكما علي فأخبراه بموت اُمّكما. فخرجا حتّى إذا كانا قرب المسجد رفعا أصواتهما بالبكاء ، فابتدرهما جميع الصحابة ، فقالوا : ما يبكيكما يا ابني رسول الله؟ لا أبكى الله أعينكما (11).
وجاء في نصّ آخر : أنّه بعد أن فرغ أمير المؤمنين عليه السلام من تغسيل الزهراء عليها‌السلام نادى : «يا اُمّ كلثوم ، يا زينب ، يا سكينة ، يا فضّة ، يا حسن ، يا حسين ، هلمّوا تزوّدوا من اُمّكم ، فهذا الفراق ، واللقاء الجّنة». فأقبل الحسن والحسين عليهما السلام وهما يناديان : «وا حسرةً لا تنطفئ أبداً من فقد جدّنا محمّد المصطفى واُمّنا فاطمة الزهراء!». فقال أمير المؤمنين عليّ عليه السلام : «إنّي اُشهدُ الله أنّها قد حنّت وأنّت ، ومدّت يديها وضمّتهما إلى صدرها مليّاً ، وإذا بهاتف من السّماء ينادي : يا أبا الحسن ، ارفعهما فلقد أبكيا والله ملائكة السماوات» (12).
وذكرت أكثر الروايات أنّ الحسن والحسين عليهما السلام حضرا مراسم الصلاة على جنازة اُمّهما عليها‌السلام ، وتولّى غسلها وتكفينها أمير المؤمنين عليه السلام ، وأخرجها من بيتها ومعه الحسن والحسين في الليل ، وصلّوا عليها ... (13).
لقد فجع الحسين عليه السلام وخلال فترة قصيرة بحادثتين عظيمتين مؤلمتين :
الاُولى : وفاة جدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌ و آله و سلم.
والثانية : استشهاد والدته فاطمة بنت الرّسول صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم بعدما جرى عليها من أنواع الجفاء والظلم.
وإذا أضفنا إلى ذلك مأساة غصب حقوق أبيه أمير المؤمنين عليه السلام ، ومأساة إبعاده عن المسرح السياسي ليصبح جليس بيته ، تجلّت لنا شدّة المحن والمصائب التي أحاطت بالحسين عليه السلام وهو في صغر سنّه.
ولقد تعمّقت مصائب الإمام الحسين عليه السلام بسبب أنواع الحصار المفروض من قِبل خطّ الخلافة وقتذاك على أصحاب الرّسول صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم الأوفياء لخطّه الرسالي ، وعلى علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه السلام بشكل خاص ، مثل منع الخمس وسائر الحقوق من الوصول إليه ، كما تجلّى ذلك بوضوح في تأميم «فدك» ، والذي كان من أهدافه ممارسة ضغوط مالية اُخرى على أهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم وأبناء أمير المؤمنين عليهم‌السلام.

الحسين عليه السلام في عهد عمر بن الخطاب :

وفي عهد عمر بن الخطاب اتّخذ الحصار أبعاداً أكثر خطورة ، فقد ذكر المؤرّخون أنّ عمر حظر على أصحاب الرّسول صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم الخروج من المدينة إلاّ بترخيص منه ، وقد طال الحظر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام حتّى مثّل هذا الأمر نمطاً آخر من الضغوط التي مورست على أهل بيت الوحي الطاهرين.
أجل ، لقد أدّت هذه الممارسات القهرية ، والمواقف الظالمة إلى إقصاء عليّ أمير المؤمنين عليه السلام وجعلته جليس بيته ، ومن ثمّ تغييبه عن الميادين السياسية والاجتماعية حتّى صار نسياً منسياً ، وإن كان الخليفة يرجع إليه في بعض المسائل أحياناً ، ولعلّ السبب في عدم إبعاده عن المدينة ، هو حاجته إليه في القضايا التي كانت تستجد للخليفة ، ولم يكن بمقدور أحد غير عليّ عليه السلام أن يقدّم الحلّ المقبول لها.
وبالحكمة السّديدة ، والصبر الجميل كظم أمير المؤمنين عليه السلام غيظه ، متغاضياً عن حقّه الذي استأثر به عمر بعد أبي بكر من دون حقّ شرعي ولا حجّة بالغة ، وفي كلّ ذلك عاش الحسين عليه السلام مع آلام أبيه عليه السلام ، ورأى كيفية تعامله مع الحدث ، وهو يحمل هموم الاُمّة الإسلاميّة ويقلقه مصيرها ، إنّه يتذكّر كيف كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم يؤثر عليّاً على كلّ مَنْ عداه ، ويوصي به الاُمّة المرّة بعد المرّة ، ولكنّه الآن مقصيٌّ عن مقامه ، فما كان يملك إلاّ أن يكتم أحاسيسه ومشاعره.
يروى : أنّ عمر ذات يوم كان يخطب على المنبر فلم يشعر إلاّ والحسين عليه السلام قد صعد إليه وهو يهتف : «انزل عن منبر أبي ، واذهب إلى منبر أبيك» ،
وبهت عمر واستولت الحيرة عليه ، وراح يصدّقه ويقول له : صدقت لم يكن لأبي منبر ، وأخذه فأجلسه إلى جنبه ، وجعل يفحص عمّن أوعز إليه بذلك قائلاً له : مَنْ علّمك؟ فأجابه الإمام الحسين عليه السلام : «والله ، ما علّمني أحد».
وقد كان الحق يقضي بأن لا يكتفي عمر بالتصديق الكلامي للحسين عليه السلام من دون إعادة حقّه في فدك والخمس إليه ، وإعادة حقّ والده في الخلافة إليه ؛ إطاعةً لله وللرسول صلى‌الله‌عليه‌ و آله و سلم.
ويروى أيضاً أنّ عمر كان معنيّاً بالإمام الحسين عليه السلام حتّى طلب منه أن يأتيه إذا عرض له أمر ، وقصده الحسين عليه السلام يوماً ومعاوية عنده ، ورأى ابنه عبد الله ، فطلب عليه السلام الإذن منه فلم يأذن له ، فرجع معه ، والتقى به عمر في الغد فقال له : ما منعك يا حسين أن تأتيني؟ قال الحسين عليه السلام : «إنّي جئت وأنت خال بمعاوية فرجعت مع ابن عمر». قال عمر : أنت أحقّ من ابن عمر ، فإنّما أنبت ما ترى في رؤوسنا الله ثمّ أنتم (14).

الحسين عليه السلام في عهد عثمان :

بخُلق الرسالة وآداب النبوّة ، وبالفضائل السّامية أطلّ الإمام الحسين عليه السلام على مرحلة الرجولة في العقد الثالث من العمر ، يعيش أجواء أبيه المحتسب وهو يرى اللعبة السّياسية تتلوّن والهدف واحد ، وهو أن لا يصل عليّ عليه السلام وبنوه إلى زعامة الدولة الإسلاميّة ، بل تبقى الخلافة بعيدة عنهم ؛ فها هو ابن الخطّاب لا يكتفي بحمل الاُمّة على ما لا تطيق من جفاء رأيه وطبعه وأخطاء اجتهاداته ، حتّى ابتلاها بالشورى السداسيّة التي انبثقت منها خلافة عثمان.
ولقد وصف الإمام أمير المؤمنين عليه السلام هذه المرحلة ، وهو الذي آثر مصلحة الدين والاُمّة على حقّه الخاصّ في الزعامة ، فصبر صبراً مُرّاً حتّى قال :
فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجا ، أرى تراثي نهباً ، حتّى مضى الأوّل لسبيله فأدلى بها إلى ابن الخطّاب بعده ، فصيّرها في حوزة خشناء ؛ يغلظ كلمها ، ويخشن مسّها ، ويكثر العثار فيها ، فصبرت على طول المدّة وشدّة المحنة ، حتّى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أنّي أحدهم ، فيا لله وللشورى! متى اعترض الرّيب فيّ مع الأوّل منهم حتّى صرت اُقرن إلى هذه النظائر؟! (15).
وازدادت محنة أهل البيت عليهم‌السلام ، وتضاعفت مهمّتهم صعوبةً ، وهم يواجهون عصراً جديداً من الانحراف بالخلافة ، وهو عصر يتطلّب جهوداً أضخم ، وسعياً أكبر ؛ لكي لا تضيع الاُمّة والرسالة ، ولكنّ لوناً متميزاً من المعاناة القاسية بدأ واضحاً يصبغ حياة الاُمّة الإسلاميّة ، فإنّ خيار رجالها من صحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم يُهانون ويُضربون ويُنفون ، في الوقت الذي تتسابق على مراكز الدولة شرارها من الطلقاء وأبنائهم تحت ظلّ ضعف عثمان وجهله بالاُمور أحياناً ، وعصبيّته القبليّة الاُمويّة أحياناً اُخرى (16).
وعاش الحسين عليه السلام معاناة الاُمّة وهي تنتفض على فساد حكم عثمان في مخاض عسير ، فتمتدّ الأيادي المظلومة لتزيح الخليفة الحاكم بقوّة السّيف.
وفي خطبة الإمام عليّ عليه السلام المعروفة بالشقشقيّة ، والتي وصف فيها محنة الاُمّة بتولّي الخلفاء الثلاثة دفّة الحكم قبله تصويراً دقيقاً لما جرى في حكم عثمان بن عفّان ؛ إذ قال عليه السلام :
إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه بين نثيله ومعتلفه ، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع ، إلى أن انتكث عليه فتله ، وأجهز عليه عمله ، وكبت به بطنته.

موقف مع أبي ذرّ الغفاري :

أمعن الخليفة عثمان بن عفان في التنكيل بالمعارضين والمندّدين بسياسته ، غير مراعٍ حرمة أو كرامة أحد من صحابة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم الذين طالتهم يداه ، فصبّ عليهم جام غضبه ، وبالغ في ظلمهم وإرهاقهم.
وكان أبو ذر الغفاري ـ وهو أقدم أصحاب الرّسول صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم الذين سبقوا إلى الإسلام ـ واحداً من المندّدين بسياسة عثمان والرافضين لها ، وقد نهاه عثمان عن ذلك فلم ينته ، فالتاع عثمان وضاق به ذرعاً فأبعده إلى الشّام ، وفي الشّام أخذ أبو ذر يوقظ النّاس ، ويدعوهم إلى الحذر من السّياسة الاُمويّة التي كان ينتهجها معاوية بن أبي سفيان والي عثمان الاُموي على الشّام.
لقد غضب معاوية على حركة أبي ذرّ ، وكتب إلى عثمان يخبره بخطره عليه ، فاستدعاه إلى المدينة ، لكنّ هذا الصحابي الجليل واصل مهمّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والتحذير من خطر الاُموية الدخيلة على
الإسلام والمسلمين. فرأى عثمان أنّ خير وسيلة للتخلّص من معارضة أبي ذر هي نفيه إلى جهة نائية لا سكن فيها ، فأمر بإبعاده إلى الربذة موعزاً إلى مروان بن الحكم بأن يمنع المسلمين من مشايعته وتوديعه ، ولكنّ أهل الحقّ أبوا إلاّ مخالفة عثمان ، فقد انطلق لتوديعه ـ بشكل علني ـ الإمام علي عليه السلام والحسنان عليهما السلام ، وعقيل وعبد الله بن جعفر وعمّار بن ياسر رضي‌الله‌عنهم. وقد نقل المؤرّخون كلمات حكيمة وساخنة للمودّعين استنكروا خلالها الحكم العثماني الجائر ضدّه. وقد جاء في كلمة الإمام الحسين عليه السلام ما نصّه : يا عمّاه ، إنّ الله تبارك وتعالى قادر أن يغيّر ما قد ترى ، إنّ الله كلّ يوم هو في شأن ، وقد منعك القوم دنياهم ، ومنعتهم دينك ، فما أغناك عمّا منعوك ، وأحوجهم إلى ما منعتهم؟ فاسأل الله الصبر ، واستعذ به من الجشع والجزع ، فإنّ الصبر من الدين والكرم ، وإنّ الجشع لا يقدّم رزقاً ، والجزع لا يؤخّر أجلاً.
وبكى أبو ذر بكاءً مرّاً ، فألقى نظرة الوداع الأخيرة على أهل البيت عليهم‌السلام الذين أخلص لهم الودّ وأخلصوا له ، وخاطبهم بقوله :
«رحمكم الله يا أهل بيت الرحمة ، إذا رأيتكم ذكرت بكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم ، ما لي بالمدينة سكن ولا شجن غيركم ، إنّي ثقلت على عثمان بالحجاز كما ثقلت على معاوية بالشّام ، وكره أن اُجاور أخاه وابن خاله بالمصرين ، فاُفسد النّاس عليهما ، فسيّرني إلى بلد ليس لي به ناصر ولا دافع إلاّ الله ، والله ما اُريد إلاّ الله صاحباً ، وما أخشى مع الله وحشة» (17).

الإمام الحسين عليه السلام في عهد الدولة العلوية

انتهى حكم الخلفاء الثلاثة بمقتل عثمان ، وانتهت بذلك خمسة وعشرون عاماً من العناء الناشئ عن إقصاء الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام عن الحياة السياسية والاجتماعية للمسلمين.
وقد أيقن المسلمون أنّ الإمام عليّاً عليه السلام هو القائد الذي يحقّق آمالهم وأهدافهم ويعيد لهم كرامتهم ، وأنّهم سينعمون في ظلال حكمه بالحرية والمساواة والعدل فأصرّوا على مبايعته بالخلافة.
لكن وللأسف الشّديد فقد جاءت قناعة الاُمّة هذه متأخرةً كثيراً ؛ حيث اُصيبت الاُمّة بأمراض خطيرة وانحرافات كبيرة ، وغابت عنها الروح التضحوية والقيم الإيمانية ، وتسربلت بالأطماع والمنافع الشّخصية ، وانحدرت نحو التوجّهات الفئوية الضيّقة ؛ من هنا أعلن الإمام عليّ عليه السلام رفضه الكامل لخلافتهم قائلاً لهم : «لا حاجة لي في أمركم ، فمَنْ اخترتم رضيت» (18).
وذلك لعلمه عليه السلام بأنّه من الصّعب جدّاً أن يُعيد إلى المجتمع الأحكام الإسلاميّة التي بدّلها الخلفاء وغيّروها باجتهاداتهم الخاطئة ؛ فإنّه عليه السلام كان يعرف جيّداً أنّ المجتمع الذي نشأ على تلك الأخطاء سيقف بوجهه ، وسيعمل جاهداً على مناجزته والحيلولة بينه وبين تحقيق مخطّطاته السّياسية الهادفة إلى تحقيق العدل والقضاء على الجور. هذا وإنّ أمير المؤمنين عليه السلام مع سابقته الفريدة إلى الإسلام ، وحنكته السّياسية ، ومؤهّلاته القيادية العظيمة لم يستطع الوقوف بوجه الانحراف الذي سرى إلى جميع مفاصل المجتمع الإسلامي ، ولم يتمكّن من إعادة هذا المجتمع إلى طريق الحقّ والعدالة اللاّحب ، إذ وقفت في وجهه فئات من المنافقين والنفعيين ، ومَنْ كان يحمل في نفسه البغض والكره لله ولرسوله، وقد أكّد ذلك في خطبته الشقشقية بقوله عليه السلام : «فلمّا نهضتُ بالأمر نكثت طائفة ، ومرقت اُخرى ، وقسط آخرون ، كأنّهم لم يسمعوا كلام الله سبحانه يقول : (تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ). بلى والله ، لقد سمعوها ووعوها ، ولكنّهم حليت الدنيا في أعينهم ، وراقهم زبرجها» .
المصادر :
1- حلية الأولياء ١ / ٦٧ ، ونظم درر السّمطين / ١١٤ ، وتاريخ ابن عساكر ٢ / ١٨٩ ح ٦٨٠ ، ومقتل الخوارزمي ١ / ٤٣ ، وجامع الجوامع ـ للسيوطي ٦ / ٣٩٦ ، ومنتخب الكنز ٦ / ٩٥٣ ح٢٥٣٩ ، والفصول المهمّة ـ لابن الصباغ / ١٠٧ ، وتاريخ الخلفاء ـ للسيوطي / ١٧٣ ، ومجمع الزوائد ٩ / ١٣٥ ، وكنز العمّال ٥ / ١٥٣ ، وصحيح الترمذي ٥ / ٣٢٨ ح٣٨٧٤ ، واُسد الغابة ٢ / ١٢.
2- مستدرك الحاكم ٣ / ١٦٦ ، وتأريخ ابن عساكر / ترجمة الإمام الحسين عليه السلام ، وإعلام الورى ١ / ٤٣٢.
3- مجمع الزوائد ٩ / ٢٠١ ، وسير أعلام النبلاء ٣ / ١٩١ ، وذخائر العقبى / ١٤٣.
4- مسند أحمد ٥ / ٣٥٤ ، وإعلام الورى ١ / ٤٣٣ ، وكنز العمال ٧ / ١٦٨ ، وصحيح الترمذي ٥ / ٦١٦ ح٣٧٧٤.
5- مسند أحمد ١ / ١٨٥ ، وصحيح مسلم ، كتاب الفضائل باب فضائل علي ٢ / ٣٦٠ ، وصحيح الترمذي ٤ / ٢٩٣ ح٥ ٢٠٨ ، والمستدرك على الصحيحين ٣ / ١٥٠.
6- بحار الأنوار ٤٣ / ٢٦٣ ، ومناقب آل أبي طالب ٢ / ٤٦٥ ، ونظم درر السّمطين / ٢١٢.
7- بحار الأنوار ٤٣ / ٢٦٢.
8- حياة الإمام الحسين عليه السلام ـ باقر شريف القرشي ١ / ٢١٨ ، نقلاً عن مثير الأحزان.
9- مقتل الحسين ـ للخوارزمي ١ / ١١٤.
10- بحار الأنوار ٤٣ / ١٨١.
11- المصدر السابق / ١٨٦.
12- بحار الأنوار ٤٣ / ١٧٩.
13- المصدر السابق / ٢١٢.
14- الإصابة ١ / ٣٣٢.
15- نهج البلاغة / الخطبة الشقشقية.
16- تاريخ الخلفاء / ٥٧.
17- بحار الأنوار ٢٢ / ٤١٢ ، وراجع مروج الذهب ٢ / ٣٥٠.
18- بحار الأنوار ٣٢ / ٧.

 



ارسال نظر
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.