كان من مخطّطات معاوية مخالفة كلّ التراتيب الإدارية الإسلاميّة حتّى في شكل تعيين الخليفة خارجاً عن جميع الآراء حتّى تلك التي عملها الخلفاء قبله ، فَعَمَد إلى تجاوز سنن الّذين سبقوه كلّهم ، فلا هو عمل كما فعل أبو بكر في العهد لعمر من بعده ، ولا عمل مثل عمر في جعلها شُورى .
ولا أرجع الأمر إلى أهل الحلّ والعقد يختارون لأنفسهم ، بل عَمَدَ إلى تنصيب ابنه خليفة وأخَذ البيعة له قبل أن يموت ، ليعلنها «مُلكاً عَضُوضاً» بعد أن كانت خلافة.
وكان هذا الإجراء من أخطر ما أقدم عليه معاوية في آخر سنيّ حياته ، ولذلك كان للناس مواقف متفاوتة تجاه هذه البدعة ، أمّا الحسين (عليه السّلام) فقد استغلّ ذلك للإعلان عن مخالفة هذا الإجراء لبنود وثيقة الصلح الموقّعة من قبل معاوية «فلا خلاف بين العلماء أنّ الحسن إنّما سلّم الخلافة لمعاوية حياته لا غير».
مع أنّ يزيدَ كان معروفاً بين الأُمّة بفسقه ولهوه ، وعدم لياقته للأدنى من الخلافة فَضلاً عنها.
ولم يُخفِ الحسين (عليه السّلام) نشاطه حتّى عرف منه ذلك ، فجاءته الوفود يقولون له : قد علمنا رأيك ورأي أخيك.
فقال (عليه السّلام) : «إنّي أرجو أن يُعطيَ الله أخي على نيّته في حُبّهِ الكفَّ ، وأن يعطيني على نيّتي في حُبّي جهاد الظالمين» (1).
إنّ كلمة «الجهاد» تهزّ الحكومة الظالمة التي تخيّلت أنّها قد قطعت شأفة أهل الحقِّ ، واجتثّت أُصول التحرّك الجهاديّ بقتل كبار القوّاد ، وطمس معالم الحقّ ، وتشويه سمعة أهل البيت ، وسلب الإمكانات المادّية منهم.
ولكن لمّا يَسْمع الحكّام كلمة «جهاد الظالمين» من الحسين (عليه السّلام) السبط الوحيد الذي تشخص إليه أبْصار البقيّة الباقية من المسلمين ، والقلائل الّذين بقوا من أولاد الشهداء والصحابة الصلحاء الّذين ضاقوا ذرعاً من تصرّفات معاوية وولاته الجائرين ، فإنّ الأُمراء يتهيّبون الوضع بلا ريب.
وخاصة مثل مروان بن الحكم ـ ابن طريد رسول الله ولعينه ـ الذي لم يجد فرصة للإمارة على مدينة الرسول (صلّى الله عليه وآله) إلاّ حكم معاوية ، وإلاّ فأين هو من مثل هذا المقام الذي لم يحلُم به؟!
فهاهو يجد في تحرّك الإمام الحسين (عليه السّلام) أنّ أجراس الخطر تدقّ تحت آذانه ، وهو العدوّ اللدود للحسين وأهل بيته (عليهم السّلام) منذ القديم ، يوم وقف في حرب الجَمَل يُشعل فتيل الحرب ضدّ الإمام عليّ (عليه السّلام) ، لكنّه فشل واندحر وأُسِرَ وذَلَّ ، ومَنّ عليه الإمامُ (عليه السّلام) فيمن مَنّ عليهم من أهل تلك الحرب.
وهو ـ وإن استفاد من حكم معاوية ـ إلاّ أنّه لا يكنّ لمعاوية ولا لآل أُميّة ودّاً بعد أن أصبح ذيلاً لهم ، ويراهم منتصرين في صفّين ، بينما هو اندحر أمام عليّ (عليه السّلام) وانكسر في وقعة الجمل.
والآن يريد أن يضرب بسهم واحد هدفين ، فكتب إلى معاوية :
إنّي لستُ آمنُ أن يكونَ حُسينٌ مُرصِداً للفتنة ، وأظنُّ يومكم من حسين طويلاً.
ولكنّ معاوية أذكى من مروان ، فهو يعلم أنّ تحرّشه بالحسين (عليه السّلام) لا يصلح لتحقيق مآربه ، فكتب إلى الحسين في بعض ما بلغه عنه : إنّي لأظنّ أنّ في رأسك نزوةً ، فوددتُ أنّي أدركتها فأغفرها لك.
وهكذا يُحاول معاوية أن «يتحلّم» لكيْ يمتَصَّ من ثورة الإمام (عليه السّلام) وحركته شيئاً ما ويظهر من الكتاب الثاني أنّه أحسَّ بخطورة حين كتب إلى الإمام (عليه السّلام) بما يتهدّده ، بما نصّه : (أمّا بعد ، فقد انتهتْ إليَّ أُمور أرغبُ بك عنها ، فإن كانت حقّاً لم أُقارّك عليها ، ولعمري) إنّ من أعطى الله صفقة يمينه وعهده لجدير بالوفاء.
(وإن كانت باطلاً فأنت أسعد الناس بذلك ، وبحظّ نفسك تبدأ ، وبعهد الله تفي ، فلا تحملني على قطيعتك والإساءة بك ، فإنّي متى أُنكرك تنكرني ، وإنّك) متى تكدني أكدك. وقد اُنْبِئتُ أنّ قوماً من أهل الكوفة قد دعوكَ إلى الشقاق ، (فاتّقِ شقّ عصا هذه الأُمّة ، وأن يرجعوا على يدك إلى الفتنة).
وأهل العراق من قد جرّبتَ ، قد أفسدوا على أبيك وأخيك (وقد جرّبتَ الناس وبلوتهم ، وأبوك كان أفضل منك ، وقد كان اجتمع عليه رأي الّذين يلوذون بك ، ولا أظنّه يصلح لك منهم ما كان فسد عليه).
فاتّقِ الله واذكر الميثاق (وانظر لنفسك ودينك (ولا يستخفنّك الّذين لا يُوقنون) (2)».
رسالة الإمام (عليه السّلام) إلى معاوية :
ولقد اغتنم الإمامُ جواب هذا الكتاب فرصةً لتوجيه السهام المربكة على معاوية ، لِتُنتزعَ ثقتُه بتدبيراته الخبيثة ، وينغّصَ عليه استثمار جهوده الكبيرة التي زرعها طيلة سنوات حكمه ، وليعرّفه أنّه رغم السكوت المرير طيلة تلك الفترة فإنّ الإمامَ لَهُ ولمخططاته بالمرصاد ، وأنّه مراقبٌ لأعماله وتصرّفاته الهوجاء! ومتربّصٌ للوثبة عليه حينما تسنح له الفرصة ، وتؤاتيه الإمكانات وإن لم تحنْ بعدُ.
ولقد كان جواب الإمام (عليه السّلام) على ذلك التهديد صاعقةً على معاوية بحيث لم يُخْفِ تأثّره من ذلك فأصدر كلمةً قصيرة تنبئ عن كلّ مخاوفه ، فقال :
إنْ أثَرنا بأبي عبد الله إلاّ أسَداً (3).
ولقد تداول الرواةُ نبأ هذا الجواب وتناقلوه ، واعترف كثير منهم بشدّة محتواه.
قال البلاذري : فكتب إليه الحسين كتاباً غَليظاً يعدّد عليه فيه ما فعل ... ، ويقول له : «إنّك قد فُتِنتَ بكيد الصالحين مذ خُلقتَ ، فكدني ما بدا لك».
وكان آخر الكتاب : «والسّلام على مَن اتّبع الهُدى»!
وكان معاوية ـ من شدّة تأثّره وارتباكه ـ يشكو ما كتب به الحسينُ إليه ، إلى الناس (4).
لكنّ سَرَقة الحضارة ، وخَوَنة التاريخ حاولوا جهد إمكانهم أن يختصروا ما في هذا الكتاب ، وأن لا يُوردوا إلاّ جزءاً منه.
فلذلك نجد رواية ابن عساكر تقتصر على قوله :
فكتب إليه الحسين : «أتاني كتابك ، وإنّي بغير الذي بلغك عنّي جدير ، والحسنات لا يهدي لها إلاّ الله ، وما أردت لك محاربة ولا عليك خلافاً ، وما أظنّ لي عند الله عذراً في ترك جهادك ، وما أعلم فتنةً أعظم من ولايتك أمر هذه الاُمّة».
وينقطع الحديث عند ابن عساكر ، بينما الكتاب يحتوي على فقرات هامّة لا تفي بالغرض منها هذه القطعة القصيرة.
ولوضع هذه القطعة في إطارها المناسب رأينا إيراد الجواب كاملاً نقلاً عمّا أورده المؤرّخ القديم البلاذري في أنساب الأشراف قال : فكتب إليه الحسين (عليه السّلام) : «أمّا بعد ، فقد بلغني كتابك تذكر أنّه بلغك عنّي أُمور ترغب عنها ، فإن كانت حقّاً لم تقارّني عليها».(5)
ولن يهديَ إلى الحسنات ولا يسدّد لها إلاّ الله.
فأمّا ما نمي إليك فإنّما رقّاه الملاّقون ، المشّاؤون بالنمائم ، المفرّقون بين الجمع.
وما أُريد حرباً لك ، ولا خلافاً عليك ، وأيمُ الله لقد تركت ذلك وأنا أخاف الله في تركه ، وما أظنّ الله راضياً منّي بترك محاكمتك إليه ، ولا عاذري دون الاعتذار إليه فيك وفي أوليائك القاسطين الملحدين ، حزب الظالمين وأولياء الشياطين.
ألستَ قاتل حجر بن عديٍّ وأصحابه المصلّين العابدين ـ الّذين ينكرون الظلم ، ويستعظمون البدع ، ولا يخافون في الله لومة لائم ـ ظلماً وعدواناً بعد إعطائهم الأمان بالمواثيق والأيمان المغلَّظة؟!
أوَلستَ قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الذي أبلته العبادة فصفرت لونه ، وأنحلت جسمه [بعد أن آمنته وأعطيته من عهود الله عزّ وجلّ وميثاقه ما لو أعطيته العصم ففهمته لنزلت إليك من شعف الجبال ، ثمّ قتلته جرأة على الله عزّ وجلّ ، واستخفافاً بذلك العهد] ؟!
أوَلست المدّعي زياداً بن سُميّة ، المولود على فراش عُبيْد عبد ثقيف؟! وزعمت أنّه ابن أبيك وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : «الولد للفراش وللعاهر الحَجَر» فتركت سُنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وخالفتَ أمره متعمّداً ، واتّبعت هواك مكذّباً بغير هُدىً من الله. ثمّ سلّطته على العراقين ، فقطع أيدي المسلمين ، وسمل أعينهم ، وصلبهم على جذوع النخل!
كأنّك لست من هذه الأُمّة ، وكأنّها ليست منك؟! وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) :
من ألحق بقوم نسباً ليس لهم فهو ملعون؟!
أوَلستَ صاحب الحضرميّين الّذين كتب إليك ابنُ سُميّة أنّهم على دين عليّ ، فكتبت إليه : «أُقتل مَن كان على دين عليّ ورأيه» فقتلهم ومثَّل بهم بأمرك؟!
ودينُ عليٍّ دينُ محمّد (صلّى الله عليه وآله) الذي كان يضرب عليه أباك ، والذي انتحالُك إيّاه أجلسك مجلسك هذا ولولاهم كان أفضل شرفك تجشُّم الرحلتين في طلب الخمور؟!
وقلتَ : انظر لنفسك ودينك والأُمّة واتقّ شقّ عصا هذه الاُمّة ، وأن ترد الناس إلى الفتنة.
[فلا أعرف فتنةً أعظم من ولايتك أمر هذه الأُمّة] ولا أعلم نظراً لنفسي وديني أفضل من جهادك ، فإنْ أفعله فهو قربة إلى ربّي ، وإن أتركه فذنبٌ أستغفر الله منه في كثير من تقصيري ، وأسأل الله توفيقي لأرشد أُموري.
وقلت فيما تقول : إن أُنكرك تنكرني وإن أكدك تكدني.
[وهل رأيك إلاّ كيد الصالحين منذ خُلقتَ؟! فكدني ما بدا لك] فإنّي أرجو أن لا يضرّني كيدك ، وأن لا يكون على أحد أضرَّ منه على نفسك ، على أنّك تكيد فتوقظ عدوّك وتوبق نفسك ، كفعلك بهؤلاء الّذين قتلتهم ومثّلتَ بهم بعد الصلح والأيمان والعهد والميثاق ، فقتلتهم من غير أن يكونوا قتلوا إلاّ لذكرهم فضلنا وتعظيمهم حقّنا بما به شرفتَ وعرفت ، مخافة أمر لعلّك لو لم تقتلهم مُتَّ قبل أن يفعلوه ، أو ماتوا قبل أن يدركوه!؟ فأبشر يا معاوية بالقصاص ، وأيقن بالحساب.
واعلم أنّ لله كتاباً لا يُغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها ، وليس الله بناسٍ لك أخذك بالظنّة ، وقتلك أولياءَهُ على الشبهة والتهمة [ونفيك إيّاهم من دار الهجرة إلى الغربة والوحشة].
وأخذك الناس بالبيعة لابنك : غلام سفيه يشرب الشراب ويلعب بالكلاب.
ولا أعلمك إلاّ قد خسرت نفسك ، وأوبقتَ دينك ، وأكلتَ أمانتك ، وغششتَ رعيّتك [وسمعت مقالة السفيه الجاهل ، وأخفتَ التقيّ الورع الحليم] وتبوّأت مقعدك من النار ، فبعداً للقوم الظالمين!
والسلام على من اتّبعَ الهُدى».
إنّ موقف الإمام الحسين (عليه السّلام) هذا الذي أبداه في جواب معاوية أربك معاوية بحيث فوجئ به وهو في أواخر أيّامه ، وقد استنفد كلّ الجهود واستعدّ ليجني ثمارها ، فإذا به يواجه «أسداً» من بني هاشم يثور في وجهه ، ويحاسبه على جرائمه التي تكفي واحدةٌ منها لإدانته أمام الرأي العام ، فكان يقول : إن أثرنا بأبي عبد الله إلاّ أسداً.
إنّ الحسين (عليه السّلام) باتّخاذه هذا الموقف من معاوية وضع أمام إنجازاته حجرةً عرقلت سيرها ، وأوقفت إنتاجها السريع ، ممّا جعل معاوية يفكّر ويُخطّط من جديد ، ولكن كبر السنّ لم يُساعده ، والأجل لم يمهله وإن كان قد فتح للحسين صفحة في وصاياه لابنه من بعده.
أمّا الإمام الحسين (عليه السّلام) فقد بدأ بالعمل لحركة جهاديّة استتبعتْ تحطيم كلّ منجزات معاوية ، في حركة لم تطل سبعة أشهر بدأت من منتصف رجب سنة 60 ـ حين مات معاوية ـ وانتهت في يوم عاشوراء العاشر من المحرم سنة 61. فكان «حديث كربلاء» وما تضمّنه من مآس وأحزان ، وما تبعه من إحياء للإسلام من جديد حتّى أصبح «حسيني البقاء» بعد أن كان «محمّدي الوجود» وصدّق ما قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : «حسينٌ منّي وأنا من حسين».
المصادر :
1- مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور 7 / 137.
2- مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور 7 / 137.
3- مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور 7 / 137.
4- مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور 7 / 137.
5- الأخبار الطوال للدينوري ص 224 والإمامة والسياسة لابن قتيبة ص 131 ورجال الكشي والاحتجاج للطبرسي ص 297 .
ولا أرجع الأمر إلى أهل الحلّ والعقد يختارون لأنفسهم ، بل عَمَدَ إلى تنصيب ابنه خليفة وأخَذ البيعة له قبل أن يموت ، ليعلنها «مُلكاً عَضُوضاً» بعد أن كانت خلافة.
وكان هذا الإجراء من أخطر ما أقدم عليه معاوية في آخر سنيّ حياته ، ولذلك كان للناس مواقف متفاوتة تجاه هذه البدعة ، أمّا الحسين (عليه السّلام) فقد استغلّ ذلك للإعلان عن مخالفة هذا الإجراء لبنود وثيقة الصلح الموقّعة من قبل معاوية «فلا خلاف بين العلماء أنّ الحسن إنّما سلّم الخلافة لمعاوية حياته لا غير».
مع أنّ يزيدَ كان معروفاً بين الأُمّة بفسقه ولهوه ، وعدم لياقته للأدنى من الخلافة فَضلاً عنها.
ولم يُخفِ الحسين (عليه السّلام) نشاطه حتّى عرف منه ذلك ، فجاءته الوفود يقولون له : قد علمنا رأيك ورأي أخيك.
فقال (عليه السّلام) : «إنّي أرجو أن يُعطيَ الله أخي على نيّته في حُبّهِ الكفَّ ، وأن يعطيني على نيّتي في حُبّي جهاد الظالمين» (1).
إنّ كلمة «الجهاد» تهزّ الحكومة الظالمة التي تخيّلت أنّها قد قطعت شأفة أهل الحقِّ ، واجتثّت أُصول التحرّك الجهاديّ بقتل كبار القوّاد ، وطمس معالم الحقّ ، وتشويه سمعة أهل البيت ، وسلب الإمكانات المادّية منهم.
ولكن لمّا يَسْمع الحكّام كلمة «جهاد الظالمين» من الحسين (عليه السّلام) السبط الوحيد الذي تشخص إليه أبْصار البقيّة الباقية من المسلمين ، والقلائل الّذين بقوا من أولاد الشهداء والصحابة الصلحاء الّذين ضاقوا ذرعاً من تصرّفات معاوية وولاته الجائرين ، فإنّ الأُمراء يتهيّبون الوضع بلا ريب.
وخاصة مثل مروان بن الحكم ـ ابن طريد رسول الله ولعينه ـ الذي لم يجد فرصة للإمارة على مدينة الرسول (صلّى الله عليه وآله) إلاّ حكم معاوية ، وإلاّ فأين هو من مثل هذا المقام الذي لم يحلُم به؟!
فهاهو يجد في تحرّك الإمام الحسين (عليه السّلام) أنّ أجراس الخطر تدقّ تحت آذانه ، وهو العدوّ اللدود للحسين وأهل بيته (عليهم السّلام) منذ القديم ، يوم وقف في حرب الجَمَل يُشعل فتيل الحرب ضدّ الإمام عليّ (عليه السّلام) ، لكنّه فشل واندحر وأُسِرَ وذَلَّ ، ومَنّ عليه الإمامُ (عليه السّلام) فيمن مَنّ عليهم من أهل تلك الحرب.
وهو ـ وإن استفاد من حكم معاوية ـ إلاّ أنّه لا يكنّ لمعاوية ولا لآل أُميّة ودّاً بعد أن أصبح ذيلاً لهم ، ويراهم منتصرين في صفّين ، بينما هو اندحر أمام عليّ (عليه السّلام) وانكسر في وقعة الجمل.
والآن يريد أن يضرب بسهم واحد هدفين ، فكتب إلى معاوية :
إنّي لستُ آمنُ أن يكونَ حُسينٌ مُرصِداً للفتنة ، وأظنُّ يومكم من حسين طويلاً.
ولكنّ معاوية أذكى من مروان ، فهو يعلم أنّ تحرّشه بالحسين (عليه السّلام) لا يصلح لتحقيق مآربه ، فكتب إلى الحسين في بعض ما بلغه عنه : إنّي لأظنّ أنّ في رأسك نزوةً ، فوددتُ أنّي أدركتها فأغفرها لك.
وهكذا يُحاول معاوية أن «يتحلّم» لكيْ يمتَصَّ من ثورة الإمام (عليه السّلام) وحركته شيئاً ما ويظهر من الكتاب الثاني أنّه أحسَّ بخطورة حين كتب إلى الإمام (عليه السّلام) بما يتهدّده ، بما نصّه : (أمّا بعد ، فقد انتهتْ إليَّ أُمور أرغبُ بك عنها ، فإن كانت حقّاً لم أُقارّك عليها ، ولعمري) إنّ من أعطى الله صفقة يمينه وعهده لجدير بالوفاء.
(وإن كانت باطلاً فأنت أسعد الناس بذلك ، وبحظّ نفسك تبدأ ، وبعهد الله تفي ، فلا تحملني على قطيعتك والإساءة بك ، فإنّي متى أُنكرك تنكرني ، وإنّك) متى تكدني أكدك. وقد اُنْبِئتُ أنّ قوماً من أهل الكوفة قد دعوكَ إلى الشقاق ، (فاتّقِ شقّ عصا هذه الأُمّة ، وأن يرجعوا على يدك إلى الفتنة).
وأهل العراق من قد جرّبتَ ، قد أفسدوا على أبيك وأخيك (وقد جرّبتَ الناس وبلوتهم ، وأبوك كان أفضل منك ، وقد كان اجتمع عليه رأي الّذين يلوذون بك ، ولا أظنّه يصلح لك منهم ما كان فسد عليه).
فاتّقِ الله واذكر الميثاق (وانظر لنفسك ودينك (ولا يستخفنّك الّذين لا يُوقنون) (2)».
رسالة الإمام (عليه السّلام) إلى معاوية :
ولقد اغتنم الإمامُ جواب هذا الكتاب فرصةً لتوجيه السهام المربكة على معاوية ، لِتُنتزعَ ثقتُه بتدبيراته الخبيثة ، وينغّصَ عليه استثمار جهوده الكبيرة التي زرعها طيلة سنوات حكمه ، وليعرّفه أنّه رغم السكوت المرير طيلة تلك الفترة فإنّ الإمامَ لَهُ ولمخططاته بالمرصاد ، وأنّه مراقبٌ لأعماله وتصرّفاته الهوجاء! ومتربّصٌ للوثبة عليه حينما تسنح له الفرصة ، وتؤاتيه الإمكانات وإن لم تحنْ بعدُ.
ولقد كان جواب الإمام (عليه السّلام) على ذلك التهديد صاعقةً على معاوية بحيث لم يُخْفِ تأثّره من ذلك فأصدر كلمةً قصيرة تنبئ عن كلّ مخاوفه ، فقال :
إنْ أثَرنا بأبي عبد الله إلاّ أسَداً (3).
ولقد تداول الرواةُ نبأ هذا الجواب وتناقلوه ، واعترف كثير منهم بشدّة محتواه.
قال البلاذري : فكتب إليه الحسين كتاباً غَليظاً يعدّد عليه فيه ما فعل ... ، ويقول له : «إنّك قد فُتِنتَ بكيد الصالحين مذ خُلقتَ ، فكدني ما بدا لك».
وكان آخر الكتاب : «والسّلام على مَن اتّبع الهُدى»!
وكان معاوية ـ من شدّة تأثّره وارتباكه ـ يشكو ما كتب به الحسينُ إليه ، إلى الناس (4).
لكنّ سَرَقة الحضارة ، وخَوَنة التاريخ حاولوا جهد إمكانهم أن يختصروا ما في هذا الكتاب ، وأن لا يُوردوا إلاّ جزءاً منه.
فلذلك نجد رواية ابن عساكر تقتصر على قوله :
فكتب إليه الحسين : «أتاني كتابك ، وإنّي بغير الذي بلغك عنّي جدير ، والحسنات لا يهدي لها إلاّ الله ، وما أردت لك محاربة ولا عليك خلافاً ، وما أظنّ لي عند الله عذراً في ترك جهادك ، وما أعلم فتنةً أعظم من ولايتك أمر هذه الاُمّة».
وينقطع الحديث عند ابن عساكر ، بينما الكتاب يحتوي على فقرات هامّة لا تفي بالغرض منها هذه القطعة القصيرة.
ولوضع هذه القطعة في إطارها المناسب رأينا إيراد الجواب كاملاً نقلاً عمّا أورده المؤرّخ القديم البلاذري في أنساب الأشراف قال : فكتب إليه الحسين (عليه السّلام) : «أمّا بعد ، فقد بلغني كتابك تذكر أنّه بلغك عنّي أُمور ترغب عنها ، فإن كانت حقّاً لم تقارّني عليها».(5)
ولن يهديَ إلى الحسنات ولا يسدّد لها إلاّ الله.
فأمّا ما نمي إليك فإنّما رقّاه الملاّقون ، المشّاؤون بالنمائم ، المفرّقون بين الجمع.
وما أُريد حرباً لك ، ولا خلافاً عليك ، وأيمُ الله لقد تركت ذلك وأنا أخاف الله في تركه ، وما أظنّ الله راضياً منّي بترك محاكمتك إليه ، ولا عاذري دون الاعتذار إليه فيك وفي أوليائك القاسطين الملحدين ، حزب الظالمين وأولياء الشياطين.
ألستَ قاتل حجر بن عديٍّ وأصحابه المصلّين العابدين ـ الّذين ينكرون الظلم ، ويستعظمون البدع ، ولا يخافون في الله لومة لائم ـ ظلماً وعدواناً بعد إعطائهم الأمان بالمواثيق والأيمان المغلَّظة؟!
أوَلستَ قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الذي أبلته العبادة فصفرت لونه ، وأنحلت جسمه [بعد أن آمنته وأعطيته من عهود الله عزّ وجلّ وميثاقه ما لو أعطيته العصم ففهمته لنزلت إليك من شعف الجبال ، ثمّ قتلته جرأة على الله عزّ وجلّ ، واستخفافاً بذلك العهد] ؟!
أوَلست المدّعي زياداً بن سُميّة ، المولود على فراش عُبيْد عبد ثقيف؟! وزعمت أنّه ابن أبيك وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : «الولد للفراش وللعاهر الحَجَر» فتركت سُنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وخالفتَ أمره متعمّداً ، واتّبعت هواك مكذّباً بغير هُدىً من الله. ثمّ سلّطته على العراقين ، فقطع أيدي المسلمين ، وسمل أعينهم ، وصلبهم على جذوع النخل!
كأنّك لست من هذه الأُمّة ، وكأنّها ليست منك؟! وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) :
من ألحق بقوم نسباً ليس لهم فهو ملعون؟!
أوَلستَ صاحب الحضرميّين الّذين كتب إليك ابنُ سُميّة أنّهم على دين عليّ ، فكتبت إليه : «أُقتل مَن كان على دين عليّ ورأيه» فقتلهم ومثَّل بهم بأمرك؟!
ودينُ عليٍّ دينُ محمّد (صلّى الله عليه وآله) الذي كان يضرب عليه أباك ، والذي انتحالُك إيّاه أجلسك مجلسك هذا ولولاهم كان أفضل شرفك تجشُّم الرحلتين في طلب الخمور؟!
وقلتَ : انظر لنفسك ودينك والأُمّة واتقّ شقّ عصا هذه الاُمّة ، وأن ترد الناس إلى الفتنة.
[فلا أعرف فتنةً أعظم من ولايتك أمر هذه الأُمّة] ولا أعلم نظراً لنفسي وديني أفضل من جهادك ، فإنْ أفعله فهو قربة إلى ربّي ، وإن أتركه فذنبٌ أستغفر الله منه في كثير من تقصيري ، وأسأل الله توفيقي لأرشد أُموري.
وقلت فيما تقول : إن أُنكرك تنكرني وإن أكدك تكدني.
[وهل رأيك إلاّ كيد الصالحين منذ خُلقتَ؟! فكدني ما بدا لك] فإنّي أرجو أن لا يضرّني كيدك ، وأن لا يكون على أحد أضرَّ منه على نفسك ، على أنّك تكيد فتوقظ عدوّك وتوبق نفسك ، كفعلك بهؤلاء الّذين قتلتهم ومثّلتَ بهم بعد الصلح والأيمان والعهد والميثاق ، فقتلتهم من غير أن يكونوا قتلوا إلاّ لذكرهم فضلنا وتعظيمهم حقّنا بما به شرفتَ وعرفت ، مخافة أمر لعلّك لو لم تقتلهم مُتَّ قبل أن يفعلوه ، أو ماتوا قبل أن يدركوه!؟ فأبشر يا معاوية بالقصاص ، وأيقن بالحساب.
واعلم أنّ لله كتاباً لا يُغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها ، وليس الله بناسٍ لك أخذك بالظنّة ، وقتلك أولياءَهُ على الشبهة والتهمة [ونفيك إيّاهم من دار الهجرة إلى الغربة والوحشة].
وأخذك الناس بالبيعة لابنك : غلام سفيه يشرب الشراب ويلعب بالكلاب.
ولا أعلمك إلاّ قد خسرت نفسك ، وأوبقتَ دينك ، وأكلتَ أمانتك ، وغششتَ رعيّتك [وسمعت مقالة السفيه الجاهل ، وأخفتَ التقيّ الورع الحليم] وتبوّأت مقعدك من النار ، فبعداً للقوم الظالمين!
والسلام على من اتّبعَ الهُدى».
إنّ موقف الإمام الحسين (عليه السّلام) هذا الذي أبداه في جواب معاوية أربك معاوية بحيث فوجئ به وهو في أواخر أيّامه ، وقد استنفد كلّ الجهود واستعدّ ليجني ثمارها ، فإذا به يواجه «أسداً» من بني هاشم يثور في وجهه ، ويحاسبه على جرائمه التي تكفي واحدةٌ منها لإدانته أمام الرأي العام ، فكان يقول : إن أثرنا بأبي عبد الله إلاّ أسداً.
إنّ الحسين (عليه السّلام) باتّخاذه هذا الموقف من معاوية وضع أمام إنجازاته حجرةً عرقلت سيرها ، وأوقفت إنتاجها السريع ، ممّا جعل معاوية يفكّر ويُخطّط من جديد ، ولكن كبر السنّ لم يُساعده ، والأجل لم يمهله وإن كان قد فتح للحسين صفحة في وصاياه لابنه من بعده.
أمّا الإمام الحسين (عليه السّلام) فقد بدأ بالعمل لحركة جهاديّة استتبعتْ تحطيم كلّ منجزات معاوية ، في حركة لم تطل سبعة أشهر بدأت من منتصف رجب سنة 60 ـ حين مات معاوية ـ وانتهت في يوم عاشوراء العاشر من المحرم سنة 61. فكان «حديث كربلاء» وما تضمّنه من مآس وأحزان ، وما تبعه من إحياء للإسلام من جديد حتّى أصبح «حسيني البقاء» بعد أن كان «محمّدي الوجود» وصدّق ما قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : «حسينٌ منّي وأنا من حسين».
المصادر :
1- مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور 7 / 137.
2- مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور 7 / 137.
3- مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور 7 / 137.
4- مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور 7 / 137.
5- الأخبار الطوال للدينوري ص 224 والإمامة والسياسة لابن قتيبة ص 131 ورجال الكشي والاحتجاج للطبرسي ص 297 .