ما بعد النبي الاکرم صلی الله عليه وسلم

أول وأخطر مظاهر نقض عرى الإسلام هو مواجهة بطون قريش وزعامتها للنبي أثناء مرضه، والحيلولة بين النبي وبين كتابة توجيهاته النهائية وتجاهلهم لوجوده تجاهلا تاما، وقولهم على مسمعه: إن النبي يهجر!! استفهموه إنه يهجر، ولا حاجة
سه‌شنبه، 10 آذر 1394
تخمین زمان مطالعه:
موارد بیشتر برای شما
ما بعد النبي الاکرم صلی الله عليه وسلم
 ما بعد النبي الاکرم صلی الله عليه وسلم

 






 

أول وأخطر مظاهر نقض عرى الإسلام هو مواجهة بطون قريش وزعامتها للنبي أثناء مرضه، والحيلولة بين النبي وبين كتابة توجيهاته النهائية وتجاهلهم لوجوده تجاهلا تاما، وقولهم على مسمعه: إن النبي يهجر!! استفهموه إنه يهجر، ولا حاجة لنا بكتابه، حسبنا كتاب الله!(1).
كانت هذه أول عروة وأخطر عروة تنقض من عرى الإسلام، فقد تجاهلت زعامة بطون قريش وجود النبي، وأعلنت وبكل صراحة، أن القرآن يكفي، ولا حاجة لما قاله النبي أو سيقوله!!
وقد مهدت زعامة بطون قريش لهذا الموقف المدمر، فبثت سلسلة من الشائعات التي تنصب كلها على ضرورة عدم الوثوق بكل ما يقوله النبي، لأنه بشر يتكلم في الغضب والرضى، ودوره مقتصر على تلاوة القرآن، وتبليغ الناس، ما يوحى إليه من هذا القرآن فقط. وقد وثقنا ذلك في كتابنا (المواجهة) مع رسول الله وآله. وعندما تسلمت هذه الزعامة قيادة الأمة بعد وفاة النبي ترجمت أقوالها وشائعاتها وقناعاتها إلى قوانين ملزمة للرعية بالقوة الجبرية، فمنعت رواية وكتابة الحديث النبوي، وأحرقت المكتوب منه، وصار من المعروف عند العامة والخاصة أن عقوبة من يروي أحاديث النبي المتعلقة بالأمور الأساسية عقوبته قطع البلعوم على حد تعبير أبي هريرة، أو الاستحياء والقتل، كما عبر عنهما أبي بن كعب رضي الله عنه.
وهكذا واعتبارا من اللحظة التي قعد فيها رسول الله على فراش المرض تم استبعاده بالكامل، وجمدت كافة أوامره وتوجيهاته، ولم ينفذ منها شئ، وإن نفذت فقد جاء التنفيذ متأخرا وبالقدر الذي يخدم توجيهات زعامة بطون قريش، وخير مثال على ذلك جيش أسامة، أو بعث أسامة، فالملك ملك النبوة، وزعيم البطون رسميا هو خليفة النبي، والمتصرف بالملك الذي بناه النبي، والأمة هي أمة النبي. ومع هذا فلا يجوز لأي فرد من أفراد الأمة أن يروي أو يكتب حديثا عن النبي!
لأن رواية وكتابة أحاديث النبي تسبب الخلاف والاختلاف بين الناس، كما ذكر ذلك الخليفة الأول في أول تصريح له حسب رواية الذهبي في تذكرة الحفاظ وبنفس التصريح أمر الخليفة رعاياه قائلا: (فمن سألكم عن شئ فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله)! فعلى العموم، الرسول شخصيا مستبعد (كما في حالة مرضه)، وأحاديثه التي تضمنت توجيهاته مستبعدة من التأثير على الحركة الكلية للمجتمع، إلا إذا كانت هذه الأحاديث تخدم الملك، وتوجهاته الجديدة والقائمين عليه، فعندئذ تعمم هذه الأحاديث وتعامل بقداسة، وتروى وتبرز كأدلة قاطعة على شرعية نظام البطون!! يمكن لمن يشاء أن يروي ما يشاء من أشعار الجاهلية، وخرافات الأقدميين ونجاسات الشرك، ويمكن لفئة أن تقص القصص وأساطير بني إسرائيل في مسجد الرسول نفسه، فلا خطر من ذلك على ألفة الأمة ووحدتها وانقيادها لزعامة البطون. ولكن لا يمكن حتى لأبي بن كعب أن يروي حديثا عن النبي يمس واقع المجتمع أو مستقبله، لأن مثل هذا الحديث يسبب الخلاف، والاختلاف على حد تعبير الخليفة الأول وبهذه الحالة وأمثالها فالقرآن وحده يكفي!.

استبعاد آل محمد وأهل البيت والهاشميين ومن والاهم!

ومن مظاهر حل عرى الإسلام أن زعامة بطون قريش التي استولت على السلطة بعد وفاة النبي، قد استبعدت آل محمد الذين يصلي عليهم المسلمون في صلاتهم، كما استبعدت أهل بيت النبوة الذين شهد الله لهم بالطهارة، ثم هم أبناء النبي، ونساؤه، وكنفسه كما هو ثابت بآية المباهلة، وبعد يوم واحد من دفن النبي هددت زعامة البطون علي بن أبي طالب بالقتل، وأحضرت الحطب وشرعت بحرق بيت فاطمة بنت الرسول على من فيه وفيه، فاطمة والحسن والحسين سبطا رسول الله سلام الله عليهم ، وحرمتهم من إرثهم من النبي، ومن تركته، وصادرت كافة الإقطاعات التي أعطاها النبي لهم حال حياته، وجردتهم من كافة ممتلكاتهم، ولأسباب إنسانية تعهد الخليفة الجديد بتقديم المأكل والمشرب لهم لا يزيد عن ذلك! وصورت السلطة الجديدة أهل بيت النبوة بصورة الشاقين لعصا الطاعة المفارقين للجماعة، فأذلتهم، وعزلتهم عزلا تاما، فتجنبهم الناس، ونفروا منهم مع أن آل محمد وأهل بيته قد ورثوا علم النبوة كاملا وعزل الهاشميون وهم بطن النبي وتجنبهم الناس، واتخذوا منهم موقفا حذرا على ضوء موقف السلطة، وادعت بطون قريش أنها الأقرب للنبي لأن محمدا من قريش!
ويجدر بالذكر، أن بطون قريش ال 23 وقفت وقفة رجل واحد ضد النبي، فقاومته قبل الهجرة، وحاربته بعد الهجرة، ولم يقف مع النبي عمليا ولم يحمه من شرور بطون قريش إلا البطن الهاشمي، وعندما أشعلت بطون قريش حربها الآثمة ضد النبي، كان الهاشميون أول من قاتل وأول من قتل وبقوا إلى جانب النبي حتى انتقل إلى جوار ربه، هناك مزقت بطون قريش سجلات بني هاشم الحافلة بالأمجاد والشرف وعزلتهم وعاملتهم معاملة العبيد والسوقة.
وأحكمت بطون قريش الحلقة عندما عاملت أولياء آل محمد وأهل بيت النبوة معاملة جائرة بجرم موالاتهم لأهل البيت، وقولهم بأن آل محمد كما قد عرفوا من النبي أولى بسلطانه.
وخوفا من هذه الدعوى استبعدت بطون قريش آل محمد، وأهل بيته، وبني هاشم، ومن والاهم أو قال بمقالتهم أو تتلمذ على أيديهم. ومع أن الخلفاء التاريخيين، وبقوة الدفع النبوي، وبالآلية التي أوجدها النبي، وبالجيش الذي أسسه النبي قد فتحوا مشارق الأرض ومغاربها، إلا أنه لم يرو راو قط أن أحدا من الخلفاء قد أمر أحدا من آل محمد أو من أهل بيته، أو أحدا ممن يواليهم، بل على العكس كان الخلفاء يختارون الأمراء والعمال والولاة من الكارهين لآل محمد والحاقدين عليهم، أو ممن كانوا لا يرون لآل محمد أي فضل أو تميز عن الناس.
ولم تكتف زعامة قريش بذلك إنما حاولت أن تضرب آل محمد ببعضهم وأن توقع بينهم كما فعلت عندما وعدت العباس ببعض الأمر لتتمكن من الانفراد بعلي بن أبي طالب، وإبطال حجته، وحاولت أن تفتت وحدة البطن الهاشمي، ولكن محاولاتها فشلت في البداية ونجحت فيما بعد!!
ورصت زعامة البطون، وقادت بنفسها حملة كبرى هدفها طرد وتقتيل وتشريد وإذلال آل محمد، فهددت عليا بالقتل، وشرعت بحرق بيت فاطمة على من فيه، وفيه ابنا الرسول الحسن والحسين، وحرمتهم من ميراث النبي وتركته وصادرت ممتلكاتهم، ثم سمت الحسن، ثم قتلت الحسين، وأبادت أهل بيت النبوة، وتجاهلت ومعها الأكثرية الساحقة من المسلمين نداءات النبي التي لم تتوقف، ووصاياه المتلاحقة: (اتقوا الله في أهل بيتي)، وقد عبر الإمام زين العابدين عن هذا الهول بقوله: (لو أن رسول الله قد حرض المسلمين علينا ما زادوا على ما فعلوا..).
وهكذا تم استبعاد أهل بيت النبوة، وحرمانهم، والتنكيل بهم وإذلالهم، ومعاقبة أوليائهم، فقد مر على المسلمين حين من الدهر كان فيه حب آل محمد أو موالاتهم من جرائم الخيانة العظمى التي عقوبتها القتل وهدم الدار، والحرمان من العطاء، والتجريد من كافة الحقوق المدنية، بحيث لا تقبل شهادة من يحب آل محمد (راجع كتاب الأحداث للمدائني برواية ابن أبي الحديد في شرح النهج ج 3 ص 595 تحقيق حسن تميم).
فإذا عرفت أن أهل بيت النبوة هم أحد الثقلين بالنص الشرعي، وأن الهدى لن يدرك إلا بالتمسك بهما: (كتاب الله وعترة النبي أهل بيته) تكتشف بيسر بأن كافة عرى الإسلام قد حلت بالفعل، وأن الذين حكموا باسم الإسلام كانوا يصيبون من الإسلام المقاتل، ويجردونه من كل مضامينه، ويهدمون كل أركانه، ولا يبقون منه إلا الشكليات اللازمة للمحافظة على الملك!
والمدهش بالفعل، أن أهل بيت النبوة قد استغاثوا فلم يغثهم أحد، واستنصروا فلم ينصرهم أحد، وشرعت السلطة بحرق بيت فاطمة على من فيه وفيه ابنا الرسول، وحرمت السلطة أهل البيت من ميراث النبي، ومن تركته، وجردتهم من ممتلكاتهم. ومع هذا لم ينكر على السلطة منكر، ولم يأمرها أحد بمعروف، ولم ينهها عن منكر، والمدهش أيضا أن تجند السلطة مائة ألف مقاتل لقتال الحسين ومن معه، وهم لا يزيدون عن مائة رجل، ومع هذا لم ينكر عليها منكر، ولم يأمرها أحد بمعروف أو ينهها عن منكر، وبعد أن قتل كل من كان مع الحسين وبقي وحيدا شن جيش الخلافة هجوما شاملا على رجل واحد! ولهم غاية محددة وهي قتله، والتمثيل به، ومع هذا لم ينكر على الخليفة أو جيشه منكر، ولم يؤمروا بمعروف أو ينهوا عن منكر! وهذا ما لم يحدث حتى في مجتمع الفراعنة! وهكذا حدث ما أخبر به الرسول، وحذر منه. ولاقى أهل بيته القتل والتشريد والتطريد واقترف هذه الجرائم زعماء القوم الذين سمعوا النبي وهو يخبر بما كان، وما هو كائن، ويحذر، وشاهدوه وهو يبكي على ما يفعل القوم بأهل بيته من بعده، وبعد موت النبي تذكرت زعامة القوم تحذيرات النبي، واستذكرت دموعه الشريفة، ولكن تلك الزعامة ارتكبت جرائمها مع سبق الترصد والإصرار، وهي نفس الجرائم التي حذرها النبي منها.

غربة الإسلام والإيمان

بعد أن حلت عرى الإسلام بدءا من الحكم وانتهاء بالصلاة، أصبح الإسلام الحقيقي الذي جاء به محمد غريبا على المجتمع، إذ لم يبق من الإسلام إلا الشكليات الضرورية لبقاء الملك، والسيطرة على البلاد المفتوحة باسمه، والمسلمون المؤمنون الحقيقيون الذي بنيت دولة النبي على أكتافهم صاروا فئة قليلة معزولة غريبة غربة تامة عن مجتمع دولة الخلافة، لأن هذه الفئة تمسكت بالقرآن ووالت أهل بيت النبوة، كما أمرت وشكلت مع أهل بيت النبوة الشيعة المؤمنة التي تحمل إرث الأنبياء والتي عاشت معزولة طوال التاريخ البشري .
فأفراد هذه الفئة المؤمنة هم الذين وقفوا مع النبي في لحظات شدته، وهم الذين نهلوا علوم النبوة يوما بيوم، وطبقوها فصلا فصلا، حتى صاروا هم أساتذة المجتمع وينابيع الدين النقية، ولما استولت بطون قريش بالقوة والتغلب على منصب الخلافة واكتشفت أن هذه الجماعة المؤمنة موالية لله ولرسوله ولأهل بيت النبوة، وأن ولاءها الثلاثي هذا لن يتجزأ لأن هذا الولاء بعرفها هو الدين الحقيقي، عندئذ أدركت دولة الخلافة خطورة هذه الفئة فنقمت عليها، وعزلتها تماما كما عزلت أهل بيت النبوة، واعتبرت أفرادها غرباء متطرفين، واعتبرت تعاليمهم خطرا على وحدة الدولة، ووحدة الأمة، وحذرت دولة الخلافة أفراد تلك الفئة بأنهم إن لم يلتزموا بالطاعة، وإعلان الولاء للدولة، فإن الدولة ستسند لهم تهمة مفارقة الجماعة، وشق عصا الطاعة، وتفريق الأمة الواحدة وهي جرائم عقوبتها الموت، وكان واضحا لأفراد تلك الفئة المؤمنة، بأن العامة ينتظرون إشارة دولة الخلافة لقتل كافة أفراد هذه الفئة، وسبي ذراريهم، ونهب أموالهم، لأن العامة لا مطمع فعلي لها إلا المال ورضى الخليفة الغالب طمعا بما في يديه، وتلك حقيقة فلن يكون لأي فرد من أفراد هذه الفئة المؤمنة أهمية أعظم من علي بن أبي طالب، أو من فاطمة بنت محمد، أو من سادات بني هاشم، وقد سمع الجميع ما حل بهم، وما آلت إليه أحوالهم من الذل والهوان والعزلة!
لذلك من الأفضل لأفراد هذه الفئة أن يتجاهلوا تاريخهم الحافل بالأمجاد، وعلاقتهم الحميمة الخاصة بالنبي، وأن يتبالهوا، فيقوموا بدور التلاميذ الذين يسمعون للأمراء الأساتذة!
صحيح أن الأمراء طلقاء لا يفهمون من الدين شيئا، وأن أفراد الفئة المؤمنة هم العلماء، وكان ينبغي أن يكون أفراد الفئة المؤمنة هم الأمراء، والأساتذة، الذين يفيضون علومهم على الجميع، لكن الخليفة الغالب قد قرر الاستعانة بقوة (الطلقاء) وإثم الطلقاء على أنفسهم كما قال عمر بن الخطاب، فأصبح الطلقاء أمراء ومن حق الأمير أن يطاع وأن يوجه ويقود المأمورين!! وكان بيد دولة الخلافة وأركانها آلية الحكم الخاصة، فمن يعصي الخليفة الغالب الذي يتربع عمليا على ملك الدنيا ونفوذها، يتصرف به على الوجه الذي يريد بلا رقيب ولا حسيب.
ويطيع عليا بن أبي طالب المؤمن الذي لا يملك شروى نقير، ومن يعصي معاوية بن أبي سفيان والي الشام المتصرف بخيراتها تصرف المالك بملكه، ويطيع عمار بن ياسر، وأبا ذر الغفاري، أو المقداد بن عمرو، الفقراء المغضوب عليهم من دولة الخلافة. صحيح أن معاوية بن أبي سفيان مثلا طليق وابن طليق، وأحد أبرز قادة معسكر الشرك الذي قاوم وحارب رسول الله وبكل قواه حتى أحيط به فاضطر مكرها للاستسلام والإسلام، وصحيح أيضا أن معاوية لا يعرف شيئا من الإسلام، وصحيح أيضا بأن عمار وأبا ذر والمقداد من أعمدة الإسلام ومن رواده المؤسسين وبناته ومن علمائه، لكن هذا تاريخ، ومثاليات، بعيدة عن إمكانية التطبيق فالواقع المفروض والوحيد الذي يمكن تطبيقه هو أن معاوية هو الأمير الذي يجب أن يطاع، والمعلم الديني، وأن عمار والمقداد وأبا ذر وأمثالهم مأمورين ومتعلمين، ويجب أن يرهفوا أسماعهم لمعاوية العالم الديني، وأن يتعودوا على طاعة معاوية الأمير! وإن لم يفعلوا ذلك فهم عصاة أو مشاغبون يهددون الأمن ووحدة الأمة!! والقانون الإسلامي يطبق على الجميع لا فرق بين عربي وعجمي، ولا سابق بالإيمان ولا طليق، تلك هي الآلية القانونية التي أوجدتها دولة الخلافة!
وقد يخطر ببال عمار مثلا، وكما حدث بالفعل حسب رواية ابن الأثير في تاريخه أن يقدم احتجاجا خطيا إلى الخليفة الرمز يشكو له من أمور لا يمكن تبريرها، حتى وفق آلية الدولة، عندئذ يأمر الخليفة بعض أعوانه الطلقاء فيضربوا عمار بن ياسر، حتى يكسروا أضلاعه، ويرموه أخوار أسوار قصر الخليفة، لأنه تجرأ على ذكر مثل تلك الأمور، وتجرأ على الشكوى، وقد حدث هذا بالفعل كما روى ابن الأثير وغيره، وقد يخطر ببال أبي ذر أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحذر من مظاهر البذخ وسوء العاقبة، فيفسر عمل أبي ذر هذا بأنه (إفساد في الأرض) وإفساد للناس، فقد كتب معاوية إلى الخليفة، بأن أبا ذر في طريقه لإفساد الشام وأهلها، عندئذ يأمر الخليفة بنفيه، وينفى من مكان إلى مكان بالفعل خوفا على أمة محمد من أن يفسدها صاحبه أبو ذر، ويعيش الرجل مطاردا منفيا، ويموت منفيا وحيدا! وقد تتولى دولة الخلافة قتل من لا تقوى على تدجينهم من المؤمنين السابقين، وتسند تهمة القتل إلى الجن، كما فعلت مع سعد بن عبادة سيد الخزرج، فالرسالة الرسمية المصححة والمطلوب من المسلمين المؤمنين الصادقين أن يتناسوا بالكامل كل تاريخهم وعلومهم وعلاقتهم بالنبي، وأن يغضوا أبصارهم تماما عما يجري، وأن يشهدوا بصمت عملية نقض عرى الإسلام كلها، وأن يراقبوا عملية التغيير (الإسلامية الكبرى) فإن فعلوا ذلك نجوا، ولن يتعرض لهم أحد، ويمكن لكل واحد منهم أن يأخذ عطاءه الشهري، ولن يغضب الخليفة منه، وليس من المستبعد أن يرضى الخليفة وأعوانه عليه!
هذه الآلية العجيبة عزلت الفئة المؤمنة عمليا، وحيدتها تحييدا تاما عن التأثير على حركة الأحداث التي أدت لنقض عرى الإسلام كلها، وبالتالي فقد أصبح الإسلام والإيمان وكافة مضامينهما الحقيقية مفاهيم غريبة تماما، لا تنتمي لحركة الأحداث، ولا تؤثر على الأحداث، وهي عرضة للتبديل والتحوير والتغيير، لأن هذه المضامين وفي أحسن الظروف مجرد اجتهادات، لا تقدم ولا تؤخر، ولا تقيد الخليفة، فرسول الله مثلا كان يوزع العطاء بين الناس بالسوية، لا يفرق بين عربي وعجمي وأسود وأبيض، لأن حاجات الناس الأساسية متشابهة ومضى الخليفة الأول على هذه السنة، ولما جاء الخليفة الثاني اكتشف بأنه ليس من العدل أن يأخذ العربي كالعجمي، وأن يأخذ القرشي كغيره من العرب، لذلك اجتهد فأوجد موازين خاصة ومراتب للناس، وألغى فكرة التسوية بالعطاء، وأعطى الناس حسب مراتبهم عنده، حتى أنه لم يساو بالعطاء بين زوجات الرسول، فلعائشة أم المؤمنين، ولحفصة ابنته وأم المؤمنين درجة أعظم من أم سلمة مثلا، فكانت عائشة مثلا تأخذ اثني عشر ألفا، وكان المئات من الناس لا يحصلون على معشار هذا المبلغ، ونتيجة هذا الاجتهاد نشأت الطبقية فوجدت فئة يملك كل واحد من أفرادها الملايين، بل المليارات، ووجدت الملايين من الناس التي لا تدرك رغيف العيش إلا بشق الأنفس!! واكتشف الخليفة بعد بضع سنين خطورة الآثار المدمرة لاجتهاده، فصرح بأنه إن عاش العام المقبل سيرجع إلى سنة صاحبه ويوزع المال بالسوية، كما كان يفعل الرسول وأبو بكر!. ولا يخفى على عاقل.
بأن التسوية بالعطاء هي حكم شرعي صرح به النبي، وطبقه خلال حياته المباركة، ومن الطبيعي أن هذا الحكم أمر إلهي، لأن الرسول يتبع ويطبق ما يوحى إليه من ربه! ومع هذا يتصرف الخليفة بهذا الحكم تصرف المجتهد الخبير الذي يتصور أن اجتهاده يمكن أن يكون أقرب للعدل، مما أمر الله به وطبقه رسوله. ويموت الخليفة العادل والناس على اجتهاده، وجاء اللاحقون فجعلوا اجتهاد الخليفة سنة نافذة، غير قابلة للتغيير!! لماذا! بحجة أنها قد جرت أمام الصحابة فلم ينكر عليه منكر!! أما سنة النبي فلم يسأل عنها أحد، ولم يطالب بإعادتها أحد!! وعلى هذا فقس ما تشاء من الأحكام والقواعد والمفاهيم الإسلامية وعرى الإسلام التي حلت كلها.
وهكذا صار الإسلام، والإيمان وكافة مضامينهما ومفاهيمهما غريبة تماما.

هذا على مستوى الدين.

أما على مستوى المسلمين المخلصين والمؤمنين الصادقين، فقد صاروا غرباء أيضا عن المجتمع، فهم كفئة جاءت من مجتمع آخر، وسكنت في المجتمع الجديد، واضطرت مكرهة أن تلتزم بقواعد وتوجهات المجتمع الجديد الذي استضافها، لقد عزلتهم دولة الخلافة عن الأكثرية المسلمة عزلا تاما، وشككت بولائهم لأمير المؤمنين ولدولته، وحرمت عليهم تولي الوظائف العامة لأنهم غرباء، وحرمت عليهم أن يكتبوا أو يرووا أو يحدثوا الناس بما سمعوه أو رأوه من رسول الله، باعتبارهم فئة تهدف إلى شق عصا الطاعة وتفريق الأمة المسلمة الواحدة!
فصارت الفئة المسلمة غريبة تماما عن المجتمع ويدها مشلولة وقدرتها محدودة على تغيير ما يجري في المجتمع.
لقد انقلبت الدنيا رأسا على عقب، فأعداء الله الذين قاوموا الرسول وحاربوه بكل وسائل الحرب، حتى أحيط بهم فاضطروا مكرهين للاستسلام وإعلان الإسلام صاروا قادة المجتمع وأمراؤه وخزنة أمواله وأساتذته، أما أولياء الله الذين وقفوا مع النبي في عسره ويسره، وحاربوا أعداءه وتلقوا وفهموا تعاليم الإسلام، فقد صاروا غرباء، محكومين، واضطروا أن يدخلوا الصفوف الابتدائية، ويتتلمذوا على يد الذين يجهلون الإسلام، والذين حاربوه بالأمس!!! وأن يقفوا في طوابير طويلة ليأخذوا ما تجود به أنفس الأمراء الجدد الذين كانوا أعداء الله بالأمس!!
إنها غربة الإسلام والإيمان، وغربة المسلمين المخلصين والمؤمنين الصادقين، تلك الغربة التي أخبر عنها النبي، وحذر منها قبل وقوعها بقوله: (إن الإيمان بدأ غريبا وسيعود كما بدأ، فطوبى للغرباء... (وبدأ الإسلام غريبا، ثم يعود غريبا كما بدأ...). (2).
لقد عاشت الفئة القليلة المؤمنة غربة كغربة الفئة المؤمنة التي عاشت في المجتمعات التي سبقت عصر النبوة المحمدية. فمارست عباداتها سرا، ودعت لأمر الله سرا، وكتمت إيمانها، وانتظرت فرج الله لأن قيادة المجتمع قد كانت لها، وخرجت من يدها بالقوة والتغلب وبالكثرة، حيث جرت الأكثرية خلف مصالحها العاجلة، والفرق أن الفئة المؤمنة التي صارت غريبة بعد موت الرسول، صارت تعرف هدفها، وتعرف الوسيلة لتحقيق هذا الهدف، لذلك تجمعت حول أهل بيت النبوة ووالتهم كما أمرت، ونهلت منهم علوم الإسلام، وأخذت تدعو إلى الله ودينه سرا وتنمو يوما بعد يوم، وهدفها هداية الأكثرية الساحقة إلى الطريق القويم لتتحصن الأمة ضد الانحراف والمنحرفين، وعودة الحق والأمر إلى أهله الشرعيين، وإعادة حكم الله الحقيقي إلى الأرض.

أئمة الضلالة وأعوانهم

لغة وشرعا يطلق مصطلح الإمام على رئيس الأمة وهاديها ومرجعها - أي أمة - وتعني الإمامة الرئاسة العامة والمرجعية معا، وهي إما أن تكون إمامة بر وشرعية، كإمامة إبراهيم والأئمة من بعده، وإمامة محمد والأئمة الشرعيين من ولده تقود إلى الصراط المستقيم، وإما أن تكون إمامة فاجرة وغير شرعية سندها القوة والتغلب، كإمامة فرعون وغيره من أئمة الكفر تقود إلى دار البوار، وقد فصلنا كل ما يتعلق بهذين المصطلحين في كتابنا: (الإمامة والولاية) فارجع إليه إن شئت..
وما يعنينا أن رسول الله عندما لخص الموقف لأمته، وأخبرها بما هو كائن، وما سيكون، وحذرها من مغبة معصية توجيهاته وأوامره وطاعة أعداء الله وأعداء رسوله توقف طويلا عند أئمة الضلالة، الذين سيأتون من بعده، واعتبرهم ألد الأعداء، وأعظم الأخطار التي تتهدد الأمة الإسلامية من بعده لأنهم هم الذين سيبدأون بحل عرى الإسلام، وأول عروة سيحلونها هي نظام الحكم، ثم يستعينون بالسلطة والنفوذ فيحلون ما تبقى من عرى الإسلام، حتى لا تبقى فيه ولا عروة واحدة دون حل، وأن هؤلاء الأئمة لن يبقوا من الإسلام إلا اسمه، ومن القرآن إلا اسمه، ومن الدين إلا أشكاله ومظاهره الخارجية لغاية محددة، وهي المحافظة على ملك النبوة الذي اغتصبوه والتمتع بهذا الملك بعقلية وقلوب الجبابرة، ولكن بجبة وعمامة إسلامية! هذا هو الخطر الحقيقي الذي يتهدد الإسلام ويتهدد المسلمين، والذي توقف عنده النبي، وحذر منه وكرر التحذير، فقال مرة:
(لست أخاف على أمتي جوعا يقتلهم، ولا عدوا يجتاحهم، ولكني أخاف على أمتي قبيحهم، وتصدقوا كذبهم... (3).
ووصفهم النبي مرة أخرى فقال: (لا تقوم الساعة حتى يبعث الله أمراء كذبة، ووزراء فجرة، وأمناء خونة، وقراء فسقة... (4).
وقد بين النبي الكريم أن أئمة الضلالة سيستغلون كل شئ لصالحهم، فالعطاء الذي فرضته الشريعة للمساعدة على تأمين الحاجات الأساسية لأفراد المسلمين سيحوله أئمة الضلالة إلى رشوة! بمعنى أن أئمة الضلالة لن يعطوا أي مسلم عطاءه إلا إذا بايعهم، ورضي بجورهم وظلمهم وقبل بوجودهم، لذلك أمر رسول الله المسلمين أن يأخذوا العطاء ما دام عطاء، فإذا استغل أئمة الضلالة هذا العطاء فجعلوه رشوة للسكوت، فلا ينبغي أن يأخذ المسلمون هذا العطاء، ولكن الرسول قد أخبر الأمة بأنها ستأخذ العطاء، بالرغم من أنه رشوة، لأن الفقر والحاجة يمنع المسلمين من ترك العطاء. (5).
وأخبر الرسول المسلمين بمداهنة القراء، ونفاق العلماء وبعد أن أحكم أئمة الضلالة قبضتهم على الأمة، وسلبوها أمرها من غير مشورة، وبعد أن نقضوا عرى الإسلام كلها عروة عروة سخروا موارد الدولة وإمكانياتها، وأمروا ولاتهم وعمالهم وعلماء السوء أن يكذبوا على رسول الله وأن يختلقوا أحاديث تروى بطريقة فنية توجب على المسلمين، طاعة أئمة الضلالة، لأن طاعتهم عبادة بوصفهم خلفاء للنبي، وتحرم على المسلمين معصية أئمة الضلالة، لأن معصية أئمة الضلالة معصية لله، ومعصية الله معصية للرسول، ومن عصى الله والرسول فقد برئت منه الذمة، وأحل دمه حتى في الأشهر الحرم.
وأحكم أئمة الضلالة وأعوانهم الطوق عندما حرموا على أي مسلم أن يخرج عليهم مهما فعلوا. وسخر أئمة الضلالة كافة موارد الدولة وإمكانياتها لتعميم هذه الطاعة العمياء، وأدخلوها في مناهجهم التربوية والتعليمية، ورووا الأحاديث الكثيرة عن رسول الله، ومع الأيام والعادة والتكرار، صارت هذه القناعة التي لا يقبلها عقل جزءا من الدين نفسه.
قال أبو بكر الباقلاني القاضي المعروف في كتابه (التمهيد) باب ذكر ما يوجب خلع الإمام: (قال الجمهور من أهل الإثبات، وأصحاب الحديث: لا ينخلع الإمام بفسقه وظلمه بغصب الأموال وضرب الأبشار وتناول النفوس المحرمة وتضييع الحقوق وتعطيل الحدود ولا يجب الخروج عليه، بل يجب وعظه وتخويفه، فالأخبار متضافرة عن الرسول، وعن الصحابة في وجوب طاعة الأئمة).
وقال النووي في شروحه على صحيح مسلم بيان لزوم طاعة الأمراء من صحيح مسلم بشرح النووي ما يلي وبالحرف: (قال جماهير أهل السنة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين: لا ينعزل الإمام بالفسق والظلم وتعطيل الحدود، ولا يخلع، ولا يجوز الخروج عليه بذلك، بل يجب وعظه وتخويفه، وأما الخروج على الأئمة وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين، وإن كانوا فسقة ظالمين)!!! أو أئمة مضلين، إن أطاعوهم فتنوهم، وإن عصوهم قتلوهم. (6).
لقد حذر الرسول كثيرا من الدجال، ولكن أكد للمسلمين أن الأئمة المضلين أخطر من الدجال، (7).
وقد وصف رسول الله الأئمة المضلين فقال لأحد الصحابة: (أعاذك الله يا كعب بن عمرة من إمارة السفهاء. قال كعب: وما إمارة السفهاء ؟ قال الرسول:
أمراء يكونون بعدي لا يهدون بهديي، ولا يستنون بسنتي، فمن صدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فأولئك ليسوا مني ولست منهم، ولا يردون على الحوض، ومن لم يصدقهم على كذبهم، ولم يعنهم على ظلمهم فأولئك مني وأنا منهم وسيردون علي الحوض... (8).
ووصفهم النبي مرة أخرى فقال: (ستكون عليكم أئمة يملكون أرزاقكم يحدثونكم فيكذبونكم، ويعملون ويسيئون العمل، لا يرضون منكم حتى تحسنوا إن أئمة الضلالة وأعوانهم في منتهى الدهاء والخبث، كما أخبر الرسول إنهم شياطين حقيقيون، سخروا كافة إمكانات الدولة ومواردها للتحريف والتبديل والخلط. لقد (جيروا) أو ظهروا لهم كما تجير وتظهر قسائم الشيكات كافة الحقوق التي رتبها الله للرسول وللأئمة الشرعيين من بعده، فصار إمام الضلالة يتمتع بنفس حقوق الطاعة والامتيازات التي يتمتع بها الرسول والأئمة الشرعيين الذين اختارهم الله وأعدهم وأهلهم لقيادة الأمة من بعده! وانطلى خبث أئمة الضلالة على العوام! فهل يعقل أن يحذر رسول الله من أئمة الضلالة، وأن يخبر المسلمين بأن أئمة الضلالة سينقضون عرى الإسلام كلها، وأنهم سينتهكون كل محرم، ويشردون ويطردون ويقتلون آل محمد وأهل بيت النبوة، وسيذلون المسلمين، ومع هذا يأمر الرسول بمكافأتهم على جرائمهم العظمى، فيعتبر طاعتهم كطاعته عبادة وواجبة، ومعصيتهم كمعصيته محرمة توجب العقوبة! ثم يحرم الخروج عليهم مهما فعلوا ويتركهم يتنفعون بظلمهم وفسقهم ومعاصيهم وإذلالهم للأمة والجلوس على رأسها! فأي مجنون في الدنيا يصدق ذلك! وأي عقل يقره، وأي دين يأمر به!
ولكن ولأن أئمة الضلالة هم الحكام المالكون للسلطة والجاه والنفوذ والمتصرفون بشؤون الأمة تصرف المالك فقد اختلقوا هم وأعوانهم على الرسول، ووضعوا هذه الاختلاقات في مناهجهم التربوية والتعليمية، وفرضوا هذه المناهج على المسلمين، وأوجبوا عليهم التدين بها بالإكراه، وتناقلتها أجيال المسلمين، وروجت لها وسائل إعلام الدولة، وبحكم العادة والتكرار وبدعم متواصل من أئمة الضلالة وأعوانهم صارت العامة، الأكثرية الساحقة من الأمة، تعتقد بصواب هذا الاعتقاد، وتتعبد به، ولم يجرؤ الخاصة على الاعتراض. تلك معالم وشواهد وشواخص تكشف أئمة الضلالة وأعوانهم الذين نقضوا مجتمعين ومنفردين عرى الإسلام كلها، وأوردوا الأمة موارد الردى، وقدموا الدين بغير صورته الحقيقية، فحالوا بينه وبين الانتشار، وبين الأمم وبين الاستفادة من نوره المبين..
المصادر :
1- صحيح البخاري ج 7 ص 9 و ج 4 ص 31 و ج 1 ص 37، وصحيح مسلم ج 5 ص 75، وصحيح مسلم بشرح النووي ج 11 ص 95، ومسند أحمد بن حنبل ج 4 ص 356 ح 2992، والكامل في التاريخ لابن الأثير ج 2 ص 230 .
2- معجم أحاديث المهدي ج 1 ص 71 - 77 .
3- الطبراني في الكبير ج 22 ص 362 ح 910 وص 373 و 934، والفردوس ج 2 ص 317 ح 3437، والجامع الصغير ج 2 ص 49 ح 4680، وكنز العمال ج 6 ص 67 ح 14876، وفيض القدير ج 4 ص 101 ح 4680، .
4- رواه البزار، والهيثمي في مجمع الزوائد ج 5 ص 233، والمعجم ج 1 ص 26
5- الطبراني في الصغير ج 1 ص 264، وحلية الأولياء ج 5 ص 165 - 166، وتاريخ بغداد ج 3 ص 398، .
6- كنز العمال ج 6 ص 22 ح 14671 عن الطبراني، وفيض القدير ج 5 ص 264 ح 7238 عن الجامع الصغير.
7- بمسند الإمام أحمد ج 1 ص 98 و ج 5 ص 145، والفردوس ج 3 ص 131 ح 4163، ومجمع الزوائد ج 5 ص 238 - 239، والجامع الصغير للسيوطي ج 2 ص 201، ح 2 578، وكنز العمال ج 10 ص 191 ح 29008، .
8- النسائي ج 7 ص 160، والطبراني في الكبير ج 4 ص 67 ح 3127 و ح 3628، والطبراني في الأوسط والحاكم ج 1 ص 78 - 79، ومعجم أحاديث الإمام المهدي ج 1 ص 23 – 25


ارسال نظر
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.